الهادي التليلي
المقهى في المشهد الاجتماعي ليس مجرد مكان لاستهلاك مشاريب ساخنة أو باردة أو بعض المكملات، إنها فضاء سويولوجي هام للتحاور والشراكة الاجتماعية في مجتمع اللغة والحوار، إنها فضاء مميز للبناء المجتمعي المقام على الحوار، فالمقهى كمعطى سوسيولوجي له ثقله في التحاور وبناء علاقات ذات جدوى اجتماعياً ونفسياً، والمقهى هو فضاء إبداع وتبادل وجهات النظر فلو نظرنا إلى فلاسفة الأنوار لوجدنا أن كلاً من فولتير وليبنيدز وهابرماس وكانط وغيرهم رأو في المقاهي مجالات التقاء اجتماعي تمكن من نشر الفكر والوعي المغاير والبديل، فالمقهى كان علامة بارزة في بث الوعي المغاير والبديل، والمقاهي في كل الحضارات التي نشأت فيها كانت مساهمة وفاعلة في كل تحول مجتمعي، وفي عدد من البلدان العربية تعتبر المقاهي التي انتشرت في أشكال مختلفة تلبية لحاجة النخب الفاعلة في الترفيه والتحاور، واستطاعت المقاهي أن تتحول إلى وعاء لاحتواء كل مخاض اجتماعي، والمقاهي تاريخياً في عالمنا العربي كانت وعاء مؤسسا لوعي مغاير لما أنشئ له، وفي هذا المجال انتشرت مقاه ذات صيت عربي وعالمي في مجالات الثقافة والفكر لعل من بينها مقهى الهافانا بسوريا، التي كانت تجمع الفنانين والكتاب والإعلاميين والمفكرين وغيرهم، ومقهى الفيشاوي وقشتمر وشهرزاد بمصر التي تجمع كل النخب القديمة والتي لها حنين للفلكلور والتراث، كما كان مقهى الشابندر بشارع المتنبي بالعراق لرجال الفكر والثقافة والإبداع ومجالاً لبناء حداثة أدبية مغايرة، ومقهى القزاز بلبنان ومقهى تحت السور بتونس، فالمقهى من هذه الزاوية يعد فضاء خصبا ومجالا رحبا لبث الفكر والوعي، وهي أيضا أماكن مسكونة بالمعنى المتوارث بين الأجيال.
والمقاهي أيضا فضاء ترفيهي، حيث تستقبلنا هنا وهناك المقاهي القديمة والحديثة التي تعتبر ملعبا للعب الورق والشطرنج والنرد والدومينو والألعاب الإلكترونية وحتى الحركية، وهذه المساحة من المقاهي الترفيهية تعتبر من أكثر المشاريع ربحية ولها نوعية من الزبائن الذين يعد نصيب منهم من الشباب والمتقاعدين، فالذين لا ينشدون فكراً أو حواراً بقدر تلبية حاجاتهم إلى الترفيه الكلاسيكي من مختلف الأجيال هم جمهورها، ومن هذه المقاهي مقاه سياحية تزدهرخلال المواسم السياحية تعول على استقطاب السياح وهي مقاه ذات بعد ترفيهي بحت ترضي الحاجة الاستهلاكية للرواد.
وكذلك لا ننسى المقاهي الثقافية التي اختار أصحابها رهانات الثقافة وبناء نوعية مغايرة من الاستهلاك المبني على التزامن بين الحاجة للاستهلاك والأخرى المبنية على إشباع حاجات ثقافية، وهنا انتشرت مقاهي المسرح التي تقدم عروضا في المسرح ولعل من بينها نمط مقهى المسرح CAFE THEATRE في باريس وغيرها من بلدان العالم، وكذلك مقهى السينما CAFE CINEMAوهي مقاه تعرض الأفلام، وهي عبارة عن نوادي سينما تبرمج عروضاً تشفع بنقاشات حول الفيلم ومحتواه، وأيضا وجدت مقاهي الشعراء وغيرها، كل هذا الزخم استطاع أن يجعل من المقهى مؤسسة توسعت لتأخذ بعداً آخر أقرب إلى مجال المؤسسة الثقافية، وفي الحقيقة هذا لا يتقاطع مع ذاك، لأن الفعل الثقافي مسؤولية جماعية ونوافذه تستقطب كل النسائم، كما نجد المقاهي التراثية التي تعتبر متاحف مصغرة للعادات والتقاليد، ولها جماليتها التي تشبه ثقافة أصحابها، إنها معنى المعنى وجمال الجمال الذي ينبع من جو العادات والتقاليد وهنا يستوقفنا مقهى الفيشاوي بجدة السعودية، وغيرها المنتشرة في مختلف أرجاء الخليج العربي.
ومن بين أنماط المقاهي المواعدة القصيرة والمعبرة عنها بمقاهي الأركان CAFES DU COIN وهي مقاه تنتشر في المدن المزدحمة وتوجد المقاهي للوقت الهارب من الزمن بين زملاء العمل وغيرهم مثل مقهى باريس بتونس، ومقهى العموص وماما روزا بصفاقس وغيرها، فهذه المقاهي التي يجتمع فيها الأشخاص في تقاطعات حياتهم الحضرية في زمن وجيز لها مكانتها في خارطة المقاهي، فالمقاهي تصنع معنى الحياة في زخم الالتزامات لذلك كل أصناف المقاهي تعد ملجأ لروادها، والمقاهي نظرا لقيمتها فقد استدعتها لمنظومتها الفنادق السياحية لاحتواء الزبائن واحتلال حاجاتهم كما احتوتها مؤسسات قاعات العرض السينمائي والمسرحي التي تنتشر يوماً بعد يوم فصارت قاعات العرض والمسارح تحمل في حواشيها مؤسسة المقهى، فهي حسب تعريف بعضهم الإنسان وقد انزاح عن الآخرين لينسج معناه.
فالمقاهي التي تحدث عنها كثيراً علماء الاجتماع ومن بينهم إيميل دوركهايم وليفي بريل وكلود ليفيشتراوس وخلدها الشعراء العرب والعالميين في مؤلفاتهم تقف كمؤسسة تترجم الوعي المجتمعي لأصحابها وتترجم حسهم وذوقهم وطرق ترفيههم.
هذه المقاهي التي تم توظيفها في خارطة الترفيه السعودية المعاصرة لتعطي نفسا شبابيا غاية في الجمال ومنزلا رائعا لاحتضان المبدعين هنا وهناك، إنها لحظة انفتاح المقهى على العالم والثقافات والفنون في مشهد يجعلك في كل جغرافيا العالم في مقهى واحد طالما المملكة تحتضن كل جاليات العالم، وتلك روعة أن ترى الفن التشكيلي والمسرح والعزف الموسيقي والشعر في مقاه هنا وهناك كفسيفساء من الجمال.