منذ اختراع الكمبيوتر أو الحاسب الآلي والعالم يتغير ويتطور بصورة مذهلة، وربما لم يكن في ذهن مخترع الكمبيوتر أكثر من فكرة صناعة آلة حاسبة تقوم أوتوماتيكيا بالعمليات الحسابية المعقدة التي تحتاج إلى وقت وجهد يقوم به عدد من المحاسبين لإنجازه مع ما يمكن أن يكون من أخطاء حسابية. لكن إمكانية ربط وتوصيل هذه الكمبيوترات معاً أدى إلى صناعة ما نسميه اليوم بالإنترنت أو شبكة الاتصالات، وهي شبكة عالمية تمكن كل من لديه حاسب آلي باستخدامها في التواصل مع الحاسبات الأخرى وتبادل المعلومات وتخزينها ومعالجتها بالإضافة والتعديل ثم تمكين المستخدمين من القيام بعمليات البحث العلمي التي لم تعد الوظيفة الوحيدة لشبكة الإنترنت بل تم استحداث أهداف أخرى اجتماعية واقتصادية وترفيهية ونحو ذلك.
وقد أسهمت الحكومات في تبني مفهوم التحول نحو استخدام الإنترنت في كثير من خدماتها حتى ولد مصطلح الحكومة الإلكترونية فعلياً وكان إنجازاً وفر جودة الخدمة وخفض التكلفة وسرعة الأداء مع توثيق كل الخطوات التنفيذية لتقديم خدمات الجهات الحكومية وصاحب ذلك تحولاً في خدمات كبرى شركات القطاع الخاص ومنها المصارف وشركات التأمين والسفر والسياحة والنقل والمواصلات ولم يكن قطاع التعليم وأعمال الأجهزة القضائية فاعلة في استخدام الإنترنت لما تتطلبه من حضور وتواجد فعلاً للمستفيدين في مكان تقديم خدمة التعليم وخدمة التقاضي إلا أن معاناة العالم مع وباء الكورونا أحدثت تحولاً جذرياً في قطاع التعليم وقطاع القضاء ليس محلياً ولا إقليميًا ولكن دوليًا عالميًا شاملاً وأدى هذا التحول إلى ميلاد مصطلح الفصل الافتراضي والجلسة الافتراضية مما يوحي بأن هذا التحول مؤقتًا حتى تنتهي الجائحة، لكن التوقعات لا تشير الى ذلك لأن هناك إيجابيات تحققت إجباراً وليس اختيارًا وهو ما يصعب التراجع عنها في المنظور القريب على الأقل ما دام هناك إيجابيات ملموسة وتحقق الغرض والهدف وهو التعلم والتقاضي بفعالية وكفاءة.
والذي يهمنا في هذا المقال الموجز هو التقاضي عن بعد أو الترافع الإلكتروني وهو تقاضٍ يشمل جميع مراحل الدعوى القضائية من أول خطوة وهي رفع الدعوى وقيدها إلكترونياً وقبولها بعد فحص المستندات المطلوبة ثم تحديد موعد أول جلسة لها وإبلاغ الخصوم عن طريق رسائل الجوال والسير في كامل إجراءاتها حتى الفصل فيها بحكم ابتدائي والاعتراض عليه بالاستئناف حتى يكتسب الحكم القطعية ويكون نهائياً ثم تنفيذه عن طريق محاكم التنفيذ وهي جميعها إلكترونية تتم عن بعد وتحقق للخصوم فوائد منها:
- سهولة رفع الدعوى باستخدام الحاسب الآلي وتحصيل الحقوق وهذه السهولة أو اليسر قد تشجع بالفعل على إغراق المحاكم بالدعاوى اليسيرة والاندفاع نحو استخدام الدعاوى الكيدية للإضرار بالآخرين وهذه الممارسات لها حلول ومعالجة قانونية كفيلة بمنع تفاقمها.
- توثيق الإجراءات القضائية وأرشفتها وحفظها بما يسهل الرجوع إليها وهذه قد يسيء البعض استخدامه في تداول المستندات وأهمها الأحكام القضائية التي يجب أن تكون بين الأطراف المعنية فقط دون نشرها لما في ذلك من الإساءة إلى الآخرين وهي أيضا ممارسة خاطئة لها حلول قانونية تتناسب من خطورتها وضررها.
- جودة العمل القضائي وإمكانية الرقابة على جميع الإجراءات من قبل وزارة العدل مما يؤدي إلى تحسين مستمر في جودة الأداء وتطويره بما يحقق المستوى الذي تطمح له الوزارة لأن مرفق القضاء خضع لتطوير مستمر من الدولة وكان محل اهتمام بالغ واليوم تسهم الإنترنت والتقنية في رفع مستوى الجودة.
- أما العدالة فإنها هدف ثابت ومستمر ولكن مرحلة التوسع في استخدام التقنية وتفعيل الترافع الإلكتروني في جميع مراحل الدعوى يحقق السرعة ولا شك بأنها في التقاضي والتنفيذ مطلب رئيس بعد شكاوى من بطء الإجراءات القضائية وصعوبات التنفيذ وهي مرحلة انقضت تماماً.
ومما يجدر الإشارة إليه هو أن الترافع الإلكتروني لا يعني أن بإمكان أي شخص أن يكون محامياً لأن سهولة الوسيلة وتوفرها لا يعني المعرفة القانونية والمهارة التطبيقية والسلوك المهني الذي يمارسه المحامي في سير الدعوى التي تشبه سفينة في أمواج لا يحسن قيادة دفتها سوى من تعلم ومارس واكتسب خبرة الملاحة والمحاجة بحرفية عالية في قاعات المحاكم ومع خصوم يمتلكون خبرته ويحوزون معرفته.
ولذا فإن الاستعانة بالمحامي أو المحامية ضرورة وليست ترفاً، كما أن القضايا التجارية بنص القانون لا يترافع فيها إلا محام أو محامية مرخص لهما بالمحاماة وهذا بسبب تعقيدات القوانين التجارية وما تتطلبه من مصطلحات قانونية لكي تتوافق مع حسن سير العدالة في القضاء التجاري وهي مرحلة أولية قد يتبعها أنواع أخرى من القضايا بحسب ما تراه السلطة التشريعية محققاً للمصلحة العامة.
** **
- المحامي د. أحمد العمري