مها محمد الشريف
علاقة معقدة بين الإنسان وعلم السياسة بسبب عدم نجاح القناعات وتدني مستوى الثقافة السياسية والصراع الطبقي المنبثق من الصراع الايديولوجي الذي شوه الواقع فطمس بعض الحقائق وعكس وأكد بعض الحقائق الأخرى، وهيمنة الدول العظمى على المجتمع الدولي المعاصر الذي يمارس الإمبريالية والهيمنة غير العادلة على دول الشرق بكل أبعادها، ما يجعل تنظيم هذه العلاقة شائك في ضوء الظواهر السياسية، وما نتج عنها في ظل المتغيرات والحروب غير المتكافئة.
وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي ظهرت إيديولوجية جديدة تقوم على الاقتصاد وسياسة الكل رابح وهذا التأكيد إذا ترسخ فالعالم سيعود لمربع صراع الإيديولوجيات من جديد، لكن هذه المرة بين الغرب بقيادة أمريكا، والصين من طرف آخر، بمعنى استمرار الصراع وتقاسم النفوذ، ولعل ما حل بالكوريتين بعد الحرب العالمية الثانية، من أهم الأمثلة على الصراع الايديولوجي، بعد أن تقاسمت القوتان الاستعماريتان العظيمتان (أمريكا والاتحاد السوفياتي) الدور في هاتين الدولتين، لتعبرا عن حجم الصراع بين فكرين رئيسين سادا العالم لحقبة طويلة ولتتحول الكوريتان إلى أشبه بمناطق احتلال، واضعين الأساس لحرب أهلية، فمن الطبيعي أن تظل أهداف الاستعمار هدف عدو مستتر يعمل على مصالحه الأولية.
رغم أن السياسات والأفعال التي تمت، فقد أسهمت في ترسيخ الانقسام فكان أول قرار اتخذه الأمريكيون هو إعادة عدد كبير من الإداريين اليابانيين ومساعديهم الكوريين الذين كانوا في السلطة أثناء الفترة الاستعمارية، كما رفضت الإدارة الأمريكية الاعتراف بالتنظيمات السياسية التي أنشأها الشعب الكوري، وقد أدت هذه الإجراءات إلى أشياء غامضة لم يستطع الشعب الكوري فهمها إضافة إلى الاضطهاد الياباني الرهيب المؤدي إلى عدد من الانتفاضات والاحتجاجات الشعبية والعمالية. بل استمر العداء والتحديات بين الاتحاد السوفياتي وأمريكا، علماً أن الأمور التي لا تخاطر بها الدول المستعمرة لا تندم عليها.
استعمر السوفيات كوريا الشمالية حيث شهدت العديد من الصناعات، وتقشفا لا يؤدي إلى اكتفاء ذاتي وقدرة على توفير الأساسيات بعد انتهاء الاستعمار وما خلفه من تبعات جرى على أساسها كثير من الفروق والمقارنات بين الشمالية والجنوبية، ليصبح من الواضح أن كوريا الجنوبية ذات سيادة، ويعيش سكانها حضارة وتطورًا ورفاهية وتقدماً مشهودًا لا يخفى على العالم، كما أن اقتصادها متكامل ويحتل المركز الرابع على مستوى آسيا.
من هذا المنطلق يظل النمط السيكولوجي بكل وظائفه يقود إما للخروج من الحياة السياسية الاستعمارية بروح سليمة متعافية، أو يظل يعيش النمط نفسه دون تغيير من أجل شكليات قديمة كما هي الحال في كوريا الشمالية، إذ تعمل على إنشاء جيش ضخم تحسباً للحرب، ما يجعله الخامس عالميا من حيث القوة والعدد والمفاعلات النووية التي أخضعتها إلى العقوبات بعد فشل المفاوضات ومنعهم من التصنيع النووي، لذا نجدها تهدد بين الفينة والأخرى الولايات المتحدة ليستمر الصراع الايديولوجي في العالم.
ومن هنا يظهر أثر السياق الاستعماري في صياغة الهويات والقوميات التي تتعدى أنظمة الدولة إلى سلوكيات الفرد، إذ إن المجتمعين الكوريين، قبل الاستعمار، يملكان الكثير من الخصائص المتشابهة بحكم التقارب المكاني والعرقي، بل إن الدولتين كانتا في الماضي دولة واحدة قبل أن تنفصلا إلى واحدة شيوعية «الشمالية»، وأخرى رأسمالية «الجنوبية»، إلا أن التباين الذي زرعه الاستعمار في عمق هذا النسيج المتصل، يشير إلى قوة تأثيره التي تنطوي على عدد من العوامل المؤثرة وترتبط بطبيعة المستعمر وقدرته في صوغ الهويات من خلال العديد من المؤسسات الاستعمارية التي يأتي في مقدمتها المؤسستان العسكرية والقانونية، فضلا عن التركيبة السيكولوجية للمجتمع في الكيانات المستعمرة.
لا شك أن العالم يعيش الآن حالة تفاعلية عظيمة، عطفا على الأحداث الراهنة بأن القوتين تختلفان في بعض الملفات وتتفق في بعضها كما يقال في مواجهة الإرهاب وداعش والقاعدة، والمثير للاهتمام أن القوتين روسيا وأمريكا تتواجهان في سوريا، حيث تتمركز القوات الروسية في الغرب والوحدات الأمريكية في الشرق، أمريكا تعمل على حصر التوسع الإيراني، بينما الروس يسلحون الإيرانيين شرق الخليج. المفارقة أن القيادتين العسكريتين نظمتا تواصلاً مباشراً لمنع أي مواجهة، فالتاريخ اليوم يعكس هذا الموقف المضطرب، فهناك دائماً حصيلة متنوعة من التناقضات الهرمية التي يتوهم البعض أنها انتهت إلى الأبد.