كانت كليات الشريعة الرافد الوحيد لتوفير الكوادر البشرية المؤهلة للقيام بأعمال القضاء وكتابات العدل والاستشارات الشرعية والمحاماة ونحو ذلك من الوظائف الحقوقية في القطاعين العام والخاص. ومن واقع معايشتي لتلك المرحلة وقد كنت واحداً ممن درس وتخرج في كليات الشريعة في منتصف الثمانينات الميلادية أن الحاجة كانت ماسة جداً إلى خبرات قانونية أو كما كانت التسمية السائدة في ذلك الوقت نظامية لما في كلمة قانون وما يشتق منها من نفور لدى المتلقي وحرج يقع فيه المتكلم وهذا ليس دائماً ولكن لو قلت غالباً لكنت قريباً من الواقع والحقيقة.
وقد تغير المشهد تدريجياً بصورة تصاعدية نحو قبول الأنظمة وعدم الحرج من تطبيقها أو الاستشهاد بها حيث خفت تدريجيًا تلك الصبغة النمطية في وصف الأنظمة بأنها تعارض الشريعة الإسلامية من كل الوجوه حتى وصلنا إلى مرحلة الاعتقاد بأن التعارض من بعض الوجوه وفي بعض المواد فقط، وقد تم تلافي ذلك التصور الخاطئ الذي تم بالفعل تأجيجه حيث سارت صياغة الأنظمة على تخصيص المادة الأولى في كل نظام على أن تطبق أحكامه فيما لا يتعارض مع الكتاب والسنة.
ولا شك أن هناك دولاً اقتبست القوانين من دول سبقتها في التجربة وبصورة أشبه ما تكون بالقص واللزق أو بمعنى آخر سرقة أدبية دون الإشارة إلى المصدر ولا يلزم أن تتطابق تجارب الدول، فالمملكة لها نهج خاص وتجربة متميزة وفريدة اتسمت بتطبيق الشريعة الإسلامية مع الاستعانة بالأنظمة فيما يحقق المصلحة العامة ويتوافق مع المتغيرات التي يجب الوفاء بمتطلباتها وليس في ذلك تنازل عن أحكام الشريعة، بل هو تطبيق لها وهو أيضاً تفعيل عملي لمفهوم جلب المصالح ودفع المفاسد.
وحقيقة هناك مرحلة التسعينات الميلادية وما صاحبها من انفتاح العالم وانكسار الحواجز بتدشين شبكات الإنترنت والاتصالات وانتهاء مرحلة انغلاق كل دولة على ذاتها ثم مرحلة تحرير التجارة العالمية ومتطلباتها القانونية والتنظيمية والإدارية وإعادة الهيكلة لبعض الأجهزة الحكومية ذات الصلة بالتجارة والاستثمار، وهاتان المرحلتان مع متطلباتها فرضتا واقعاً جديداً أدى إلى تحديث القوانين على مرحلتين كل منهما كانت كفيلة بأن يتأمل القائمون على كليات الشريعة بضرورة تطوير المناهج والاستجابة لحاجة سوق العمل وإجراء تعديلات جذرية على الخطط الدراسية ولكن لم تكن الاستجابة كافية، بل كانت ضعيفة ويمكن وصفها بأنها معدومة الأثر.
ولذا فإن من النصح الواجب أن يكون هناك ورشة عمل من خبرات وكفاءات وطنية تساعد على إعادة رسم خطط الدراسة في كليات الشريعة مع الأخذ بعين الاعتبار بعض الاقتراحات ومنها:
- استحالة أن تكون فترة الأربع سنوات الدراسية في كلية الشريعة كافية لتدريس فقه العبادات وفقه المعاملات معاً، ذلك أن فقه العبادات يتعلق بالتدين وإقامة أركان الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج ويتبع ذلك سائر أحكام العبادات، بينما فقه المعاملات يمكن أن يندرج معه علم الحقوق بشكل عام وهو ذو صلة مباشرة بالتعاملات المالية وأعمال التجارة وأنظمة التقاضي ويدخل ضمن ذلك الفقه الجنائي إجرائياً وموضوعياً.
- من غير المقبول أن يكون خريج كلية الشريعة غير متقن للغة التخاطب الأولى في العالم وهي اللغة الإنجليزية حيث يجب أن يتقن قدراً لا بأس به فهي من أدوات العمل والتواصل في مجتمع منفتح على العالم يؤثر ويتأثر ويجب أن يتفاعل مع ذلك خصوصاً في عصر الإنترنت واستخدام الحاسب الآلي في كل جوانب الحياة.
- رغم الأهمية البالغة لكتب التراث الفقهي إلا أنه يجب التفريق بين المرجع والكتاب، فالمراجع ليست مناهج دراسية وإنما هي موسوعات فقهية شاملة يجب الاستفادة منها ولكن المنهج الدراسي يتم إعداده لغرض تعليمي لمادة معينة في مرحلة تناسب الطالب وتقدم له المادة العلمية وبصياغة مفهومة ومتناسبة مع أنظمة الدولة التي يتم تطبيقها.
ولذا فإن تطوير مناهج كليات الشريعة ضرورة حتمية ومطلب وطني يحقق المصلحة العامة وأعتقد جازماً بأنه من المناسب إدراجه في رؤية 2030 ووضع لجنة يكون دورها بناء التصور العام ووضع الأسس اللازمة لتحقيق هذا الهدف ومن ثم وضعه موضع التنفيذ.
ومن الملاحظ بأن الأعمال القضائية تتطلب تأهيلاً شرعياً فقهياً وقانونيًا معاصراً ومعرفة تطبيقه بعلوم الحاسب الآلي وإتقانًا مقبولاً للغة الإنجليزية وهي جميعها ليس ترفاً، بل ضرورة يشهد بها الواقع ويجب الاستجابة لها لما لذلك من تأثير في جودة العمل وخدمة العدالة.
** **
- المحامي د. أحمد العمري