الهادي التليلي
إذا كان مبدأ السياسة الخارجية في العالم المعاصر هو البراغماتية والمصالح بقطع النظر عن الواقع والمنطق والقيم، فإن ميزة الخط السعودي في السياسة الخارجية هو الثبات على المبدأ والحضور المؤثر والإسهام الفاعل.
فالسعودية طبعت العالم ببصمتها المتسمة بالمصداقية والشفافية منذ ملكها المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود وصولاً إلى عهد الملك سلمان وولي عهده الأمين، كيف لا وهي من الأعضاء المؤسسين لمنظمة الأمم المتحدة في 1945 وكذلك جامعة الدول العربية في نفس السنة، كما كانت المؤسسة لرابطة العالم الإسلامي في 1961 زمن الملك سعود ومنظمة المؤتمر الإسلامي في 1969 زمن الملك فيصل ومجلس التعاون لدول الخليج العربي في 1981زمن الملك خالد.
الدبلوماسية السعودية التي انضمت لاتفاقية فينا منذ 1961 مع تحفظات تمس الهوية والثوابت والأمن الداخلي كانت حاضرة في الشأن العالمي من خلال نضالاتها في جعل اللغة العربية لغة أساسية في مجلس الأمن وفي الدفاع عن قضايا الشعوب المشروعة والتي من أهمها القضية الفلسطينية كما اتخذت عبر التاريخ مواقف صارمة لعل قرار سنة 1973 بحظر النفط الذي كان من خلال منصة أوبك التي تضم الدول العربية المصدرة للبترول موقف دبلوماسي مدوٍ نصرة للقضية الفلسطينية، وذلك سعياً لدفع الدول الغربية لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها سنة 1967.
وفي نفس السياق الدبلوماسي نجحت السعودية في جمع الصف اللبناني من خلال إنجاح مؤتمر اتفاق الطائف في 1989 وبذلك وقف نزيف حرب أهلية كانت كفيلة بأن ترمي البلد في طريق المجهول، هذا الاتفاق الذي يعد المرجع في السلم المدني الذي تعيشه لبنان الآن، وصمام أمان وحدته الوطنية مؤتمر الطائف لم يكن مجرد لقاء مصالحة بين فرقاء لقد كان بمثابة الدستور الذي يعتد به كلما نشب خلاف.
الدبلوماسية السعودية كان حضورها لافتاً كذلك خلال حرب الخليج في مختلف محطاتها واحتضنت حكومة شقيقتها الكويت واستطاعت بجهود دبلوماسية وثقل إستراتيجي أن تعيد الشأن الكويتي إلى ما كان عليه قبل الحرب.
هذه الدبلوماسية التي شهدت وتشهد توهجاً في السنوات الأخيرة مع الملك سلمان فتنوعت أبوابها وتحولت المملكة بفضلها إلى واحدة من أكثر دول العالم تأثيراً ويكفي التذكير بأن السعودية كان لها الفضل في استقرار أسواق النفط خلال أزمة كورونا، والتي أنقذت سوقاً وصل فيه سعر برميل النفط إلى مستوى قياسي في النزول وذلك بحكمة قيادتها وروح ولي عهدها ملهم شباب العالم الأمير محمد بن سلمان. كذلك الحكومة البحرينية وجدت في المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي خير سند عندما تعرضت من إيران من خلال الوكلاء لتهديد في سلمها من خلال إسهامها الفاعل في درع الجزيرة المهيب.
ولم تكن الدبلوماسية السعودية مقتصرة على شأن التحديات التي تمس القضايا العادلة بل شملت كذلك أحلام الإنسانية من خلال تنظيم ملتقى دافوس الصحراء والذي يعتبر منبراً عالمياً للتباحث في مسائل التنمية الحضرية والنماء الاقتصادي الكوني. وأيضاً العلمية من خلال القمة العالمية للذكاء الاصطناعي والتي كانت منبرا كونيا شارك فيه علماء وخبراء وشركات ومنظمات وهياكل معنية عدت الأضخم في مجالها في تاريخ الاهتمام بالذكاء الاصطناعي.وكذلك الشمولية بما يشبه دور الأمم المتحدة، ونعني بها قمة العشرين والتي جمعت الدول الأكثر تأثيراً على مستوى الاقتصاد والحضور الجيوسياسي العالمي وكانت مخرجاتها والشكل الذي تمت به إدارتها درساً شهد به القاصي والداني قمة العشرين حققت للبشرية بجهود المملكة الكثير الكثير.
الدبلوماسية السعودية على مدى تاريخ جهودها الخارجية تحركت وفق دوائر أولها الخليجي ثانيها العربي ثالثها الإسلامي الأوسع ورابعها الإنساني.
هذه الدبلوماسية التي عهدها العالم وخبرها مشهد السياسة الخارجية العالمية وعرف وقفاتها للبشرية بكل قاراتها، ولعل مساهماتها في كل جهود وتدخلات الأمم المتحدة لتحقيق السلم في العالم كسند كوني أكبر دليل على ذلك. المملكة أكدت للعالم -الذي كلما جد حدث داهم فيه -وقوفها مع البشرية ومختلف شعوبها في أعصب اللحظات التي يميل فيها ميزان العقل الغربي إلى قاعدة الخلاص الفردي، وهنا يحضرنا جميعاً مشهد كورونا وكيف أنه عندما تخلى المجتمع الإيطالي عن شيوخه وتملصت أوروبا القوية من أوروبا الأقل قوة كانت السعودية ومن خلال منصة قمة العشرين التي احتضنتها بألق وإبداع يشبه قيادتها حيث قدمت مساعدات للدول الأشد فقراً، كما كانت الاكثر دعما للجهود الكونية لاحتواء الجائحة فكانت إسهاماتها تمس كل البشرية من صحة وبحوث علمية وجهود لتحقيق بيئة مستدامة من خلال الحد من الانبعاثات الكربونية في سبيل تحقق المجتمع الإنساني الأخضر كما مست البحوث المخبرية لإيجاد حلول لقاحية لجائحة كورونا حيث دعمت عدداً من التجمعات البحثية العالمية بمبالغ كبيرة تليق بحب المملكة وقيادتها للإنسانية.
الدبلوماسية السعودية كان لها ذراع إنساني واجتماعي مشرف حيث كان مركز الملك سلمان للإغاثة بوابة خير لكل الدول الصغيرة والكبيرة والمتوسطة حيث قدرت مبالغ المساعدات المقدمة من هذا المركز 51.24 مليار دولار أمريكي أي 192.16 مليار ريال سعودي، فكانت مساهماته موجهة للدول والهيئات والأفراد من اللاجئين فمن الدول الأكثر استفادة نذكر اليمن بـ17.946.966.624 دولاراً وفلسطين 2.064.536.621 دولاراً ومصر 2.367.529.559 دولاراً والسودان 1.598.053.084 دولاراً وميانمار 1.412.434.730 دولاراً، كما مول هذا المركز مشاريع في مختلف دول العالم قدر عددها بـ4080 استفادت منه 156 دولة بمبلغ إجمالي 33.10 مليار دولار أمريكي وفي مجال الهيئات والمنظمات الدولية ساهم هذا المركز بـ560 تدخلاً استفادت منها 48 جهة بمبلغ 2.21 مليار دولار أمريكي ومن بين من استفاد منها الأمم المتحدة والبنك الآسيوي للاستثمار في البيئة التحتية والأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي والصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي والبنك الإسلامي للتنمية وفي مجال خدمات اللاجئين داخل المملكة قدمت السعودية 15.91مليار دولار، وهذه مجرد رؤوس أقلام، فالمقدم يضيق المجال عن الخوض في تفاصيله وقمنا بذكر البعض من الكثير لندلل على أن المملكة لم تفكر يوماً في الخلاص الفردي وإنما في الوحدة الإنسانية والمصير البشري المشترك وتلك حكمة أن تكون كيانا في حجم السعودية.
المملكة لم تقل أنا ثم العالم كما فعلت دول أوروبا، بل كانت حضنا دافئا استفادت منه البشرية في أشد أزماتها في سياق الدبلوماسية الاقتصادية حيث ساهم الصندوق السعودي للتنمية SFD بدور كبير وعلى مدار عقود من الزمن في دعم ومساعدة نماء وازدهار ما يناهز 83 دولة بمشاريع وبرامج تقدر بـ656 منها 28 برنامجاً و628 مشروعاً استفادت منها 46 دولة إفريقية بمبلغ 35135.37 و29 وكذلك دولة آسيوية بمبلغ 25163.30 و8 ودول أخرى بمبلغ 1659.94 مما كان له كبير الأثر على هذه الدول والدور كبير جداً في تنمية عديد البلدان في مختلف القارات على أساس أن الاستثمار باب أساسي لتحقيق الاستقرار والأمن والسلام.
إضافة إلى التدخلات في الحفاظ على الأمن والسلام في مختلف دول العالم ولعل تنسيقها مع مجموعة الساحل الإفريقي ساداك وغيرها من الأدلة على هذه الجهود.
فالسعودية التي قدمت 580 قرضا لأكثر من 45 دولة بما يقارب 50 مليار ريال سعودي هي التي قدمت مبادرة رائدة تتمثل في تعليق الدين التي توفر سيولة عاجلة لـ73 دولة.
الدبلوماسية السعودية بجهود رجالاتها وتنوع مجالاتها التي مست كل أصناف الإسهام من دبلوماسية سياسية إلى عسكرية إلى ثقافية إلى اجتماعية بما يشبه كينونتها كإحدى دول مربع التأثير الكوني بعد تراجع أوروبا رسمت صورة ذهنية مشرقة في المشهد العالمي، ولعل آخرها الجهود المثمرة بمعية مصر وعدد من البلدان العربية في إيقاف فتيل الحرب على غزة وحقن دماء الفلسطينيين، كما كان لها دور بارز في إعمار فلسطين بعد كل حرب فإن المملكة أبدت سعيها لمواصلة إنجاح مساعي الحقن الدائم للدماء والانتقال إلى لحظة إعادة البناء والتعمير في غزة.
جهود الدبلوماسية السعودية كالماء تجري لا يقر لها قرار لأنها من ركائز العالم وسنده وتلك هي مخرجات القيادة الرشيدة.