رمضان جريدي العنزي
ظهره محدودب، لكنه لم ينكسر بعد، هي الحياة قاسية وساخنة، والركض فيها شاق ومتعب، والحصاد فيها مقدر، مدهشة هي الحياة، لكنها صعبة ووعرة، ومطارقها مؤلمة، يخرج من أول النهار لأول خيط من الليل، امتهن الدلالة حتى بح صوته ووهن، حلمه كان كبيرًا وباذخًا، يحلم بحديقة ونافورة وأريكة راقية وقصر منيف وكنز من الدهشات، دون مرة في شتوية باردة: طفولتي لم تكن ترفاً، وشبابي تعب، وكهولتي واهنة، مر عمري بين شد وجذب، مخيلات طفولة، وجموح شباب، وركود شيخوخة، لم تكن حياتي مرتبة، وليست مرصعة بالمال والسفر والأحلام الجسام، مرة ضروع الحياة علي تدر، ومرة تجف، مرة أملك الياسمينة والغزالة، ومرة تذبل الياسمينة وتفر الغزالة، مرة أفرح وأضحك كطفل، ومرة خيام الضيم والقهر مدقوقة في حلقي، طويلاً كانت في سمائي نجوم، وأحلام وليل طويل ونهار، وأنا أكلف نفسي دائمًا أكثر من وسعها، ما أحب الشتاء لكنني أحب الربيع، وأفضل ضوء القنديل على الأضواء الصاخبة، خرجت مرة من البادية النائية إلى المدينة الفارهة، كل شيء في المدينة أدهشني، الإعلانات المثيرة، الشوارع والمقاهي وأضواء النيون، وحركة السيارات الكثيفة، والباعة والمتجولون، حاولت حينها أن أكتب نصًا فاخرًا سكن في ضلعي، فنزل النص علي كأنه خنجر، حاولت أن أكون كاتبًا ساخرًا، فصرت رهين محبس أفكاري المتأرجحة، قلت سأكون كاتبًا جادًا، لأن الكاتب الساخر مثل مهرج سيرك، يرتقي خشبة المسرح، فتضحك الناس، وفي غرفة تبديل الملابس يصبح آخرًا ينزف دمعًا من أثر المواجع، مثل عنكبوت أنا ينسج بيته ببطء أمد طويل، ثم تأتي حشرة شقية لتخرب بيته بثانية، أبحث الآن عن نقطة ارتكاز، كي أسند نفسي، حكايتي مع الحياة، مثل حكاية العنكبوت، أفهم الأمر وأقطع، أبدل وجه الكتابة مرة، ووجه الكلام أخرى، أشتهي البوح المباح، ومرة أشتهي النواح، ثمة حزن سرمدي يقبع في روحي، يقرصني مثل بعوضة جائعة، جاهدت نفسي كثيرًا أن أطرد الحزن، وأكنسه خارج دائرتي، لكنه يعاندني ويصر ويلح أن يبقى، ولا يلتف لندائي، أهشه عني سبعين مرة ولم أفلح، برهة يبتعد عني، ثم يجيئني ويصنع حولي دائرة، ثم يهبط على روحي ونبضي مثل صقر يحوم حول فريسة منتقاه، حتى يسد نفسي على الأكل والشراب، فيا لروحي المتعبة المتخمة بالأسى، من أيام الطفولة لحد الكهولة، وحيدًا غريبًا مستوحشًا، وها أنذا بعد أن وهنت بلا سند ولا متكأ، أعقر وجعي، حاولت أن أغني مرة لأسلي نفسيكن حنجرتي لم تكن قوية كما كانت، قلت سأقرأ لكن بصري وهن وضعف وصار به غبش، آآآه يا جسمي توزعت عليه ضربات كثيرة وطعنات وألم، تصعد بي مع عتبات الفجر، ولا تنتهي إلا إلى ما قبل الوسن، وأحيانًا أهرع من منامي مرتعباً، أصبح لا ناقة لي في هذه الدنيا ولا جمل، لا مأوى ولا ظل شجر، سوى خلوة مفزعة، وحيدًا صرت مثل قنبرة، دفتر خساراتي صار دسمًا، ووجهي صار مثل ليمونة معصورة، أوجاعي كثيفة، وشعوري غامض، صداع وطنين، ونومي صار شحيحًا، وأنا الذي لم أجن على أحد، ولم أسطو على أحد، حياتي صارت مثل نصي مثلومًا معضوضًا من خواصره وثناياه، أفكار وغوايات، فكرة تنطح فكرة، وغواية تنطح غواية، فيضيع النص عندي مثل عصفور فر من خيطه، أنا الآن لا أعرف من شتلات الورد سوى شتلة الياسمين، لهذا سأعتاش معها بقية حياتي وأرويها بالماء كل صباح ومساء، وأبتعد عن شجرة الصبار لأنها بشعة ومؤذية وتحدث ألماً، العزلة عندي صارت مبجلة، والوحدة نص فريد، لهذا سأكون في عزلة عازلة ووحدة، حتى أشهق شهقتي الأخيرة، وأرحل لحياة الآخرة.