ميسون أبو بكر
لستُ بصدد الكتابة عمّا شغل الساحة -مؤخراً- حول المتقاعدين ومعاشاتهم والجدل الكبير الذي دار عقب لقاء مساعد محافظ المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية أ.نادر الوهيبي، لكنني أود التحدث عن تجارب رائعة عن بعض الأصدقاء المتقاعدين الذين عرفتهم في فرنسا وأمريكا، وقد ربطتني بهم صداقة عميقة ورحلات قمنا بها، وسنوات من المعرفة مكنتني من الاطلاع على حياتهم الخاصة، وألهمتني تفكيراً جديداً وثقافةً لم أكن اكتسبتها من مجتمعاتنا العربية التي يختلف تفكيرها عن المجتمعات الأخرى، فعندما كنا أطفالاً كنا نخاف أن يغزو الشيب شعر أبوينا ونبدأ نفكر بفقدانهما من عمر مبكر، لكنني الآن تجاوزت هذه المرحلة وذلك التفكير، ولم أعد أخشى على أحبتي منه، لأنني أومن بالقدر أولاً ثم إنني معجبة بأصدقائي في الغرب الذين تجاوزوا ستين عاماً وكانت خططهم لما بعد هذه السن جاهزة؛ سواء للسفر حول العالم والتعرف على ثقافات جديدة، أو تخصيص منزلهم لهذا العمر، فقد أعدوه بالوسائل المريحة والمتعددة التي تضمن لهم أوقاتاً هادئة وأماكن للقراءة أو للتشمس والباربكيو مع الأصدقاء والعائلة، وقد ادخروا قسطاً وافياً من المال إضافة إلى مبلغ التأمينات الاجتماعية الذي يتقاضونه، يساعدهم في أعباء الحياة نظام التأمين الصحي، وبعض القسائم الشرائية التي يحصلون عليها.
الحياة في الغرب ليست مرفهة كما هي في الوطن العربي وفي الخليج تحديداً الذي يكفل لمواطنيه وسائل الراحة والترفيه والتأمين الصحي، لذلك فإن الأفراد في الغرب يسعون منذ وقت مبكر للادخار والتحضير لعمر التقاعد الذي يعتبرونه بداية الحياة الهانئة والراحة، بعد عمر أمضوه في الكد والعمل والسعي وراء لقمة العيش وتعليم الأبناء، العمر الذي نخشاه نحن هو وقت ذهبي بالنسبة لهم، خططوا له طويلاً، وادخروا المال كي يتمكنوا من تعويض ما فاتهم، فهم في هذه المرحلة يملكون الوقت الكافي والمال، ثم المعرفة والقدرة على الاستمتاع بما لديهم.
لذلك نجدهم في عمر ما بعد التقاعد، تعجّ بهم برامج الرحلات المختلفة حول العالم، وهم أشخاص يحبون الحياة ويحترمون طاقاتهم، ويقدرون مشوارهم الذي يشعرون بضرورة تكريم أنفسهم بعدما أنجزوه.
ولعل الرحلات التي قمت بها مع بعض الأصدقاء، علمتني كيف أزور المكان كسائحة مثقفة، أدرس عنه قبل الوصول إليه، حتى لا أكتفي بشرح مختصر من المرشد السياحي في الرحلة، ثم أزوره ليس للترفيه فقط، بل لمزيد من المعرفة والاطلاع على ثقافة المكان والإنسان.
لا بد أن يشعر الإنسان العربي بقيمة الحياة في كل مراحل العمر، وأنه في عمر التقاعد يذهب إلى مرحلة جديدة هانئة، تمكنه من الاستمتاع بوقته وماله الذي ادخره منذ عمر مبكر، لا أن يستسلم لرقم يخافه إذا دنا منه، ويعتقد أنها النهاية لا البداية الرائقة.
صديقتي التي تشارف الثمانين، أذهب برفقتها إلى صالون التجميل ومحال الملابس التي تختار منها الألوان الزاهية والمقاهي الجميلة، وهي تحمل حقيبة المقاضي، وتتسوق لشقتها الصغيرة بنفسها، وتحضّر مائدة لأحفادها وأبنائها الذين تعودوا الاجتماع على مائدتها ظهيرة الأحد، دون أن تترك مجالاً أن تكون عدداً إضافياً لأسرهم، أو تكون بدورها مربية لحقبة جديدة من الأطفال، بل تحب استقلاليتها والهدوء الذي تنعم به، وحرية استقبال الأصدقاء والتنقل معهم.
أيها المتقاعدون.. لا عزاء إن تقاعستم عن إسعاد أنفسكم والشعور بأنكم بدأتم للتو الحياة التي تمنحكم الكثير، وندائي للشباب.. ادخروا وخططوا للجزء الآخر من الحياة.. البداية الأخرى.