د.جيرار ديب
أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «أن حق التعبير مكفول، لكن لا ينبغي أن يكون هناك عنف وكراهية في الأفعال والخطابات، وإلا فستصبح الديمقراطية نفسها تهديدًا». أتى تصريحه هذا لجريدة محلية، بعدما تلقى صفعة من داميان تارال البالغ من العمر 28 عامًا خلال جولة في منطقة دروم جنوبي شرقي فرنسا، وأفادت الشرطة الفرنسية بعد اعتقال المعتدي أنه من عداد المتطرفين اليمينيين.
هي الصفعة الأولى التي تلقاها ماكرون من التطرف المتصاعد في فرنسا الليبرالية، إذ يعاني ماكرون أزمات في الداخل الفرنسي، مع الراديكاليين الإسلاميين بعد مقتل مدرس التاريخ ذبحًا على يد متطرفين. بعد هذه الحادثة صرح ماكرون في خطاب ألقاه في مدينة لي ميرو، في أحد الأحياء الحساسة بضاحية باريس، بأن على فرنسا التصدي للانعزالية الإسلامية، الساعية إلى إقامة نظام مواز وإنكار الجمهورية. أما اليوم، فقد باتت فرنسا في عهد ماكرون محاصرة من الراديكاليين الإسلاميين واليمينيين المتطرفين، ما يشكّل صفعة أساسية في تاريخ فرنسا الديمقراطي، حيث الحرية كانت العنوان الرئيسي لثورتها عام 1789، الأمر الذي قد يحدث فوضى يمكن أن تشتعل في أي لحظة.
الداخل الفرنسي يوجه صفعة حقيقية للسياسة الماكرونية، إذ يعيد الحادث ماكرون إلى الأجواء المتوترة التي كانت محيطة به قبل انتشار وباء كوفيد 19. وكان أفضل تجسيد لها أزمة «السترات الصفراء» التي دفعت بملايين الفرنسيين إلى النزول إلى الشوارع لعدد من عطلات نهاية الأسبوع في نهاية 2018، للتنديد بسياسة الحكومة. أحرقت صور الرئيس ماكرون لا سيما خلال المسيرات المختلفة، وأتى هذا نتيجة تراجع شعبيته إلى أدنى مستوى؛ فقد أشارت دراسة أجرتها مؤسسة جان جوريس في نيسان الماضي، إلى أن حجم الكراهية لإيمانويل هو العامل الرئيسي لاحتمال فوز مرشحة اليمين القومي، مارين لوبان، في انتخابات 2022 .
بعد الصفعة الأولى، كان الرئيس الفرنسي قد تلقى صفعة ثانية موجعة لسياساته الخارجية تحديدًا بعد أن شعر أن الطبقة السياسية في لبنان قد أفشلت مبادرته الإنقاذية، التي طرحها بعد كارثة مرفأ بيروت في 4 آب 2020. ظنّ الرئيس الفرنسي أنه قادر على إحداث خرق في جدار الأزمات التي تلاحق لبنان، لاسيما بعد العزلة الدولية المفروضة عليه، بسبب تفشي الفساد بين مسؤوليه الأمر الذي أفقده ثقة المجتمع الدولي، ونتيجة تدخل حزب الله في الشؤون الداخلية للدول العربية.
فشلت الدبلوماسية الفرنسية في الاستفادة من الورقة اللبنانية لتقديمها إلى الناخب الفرنسي، رغم الدعم الأوروبي الذي حصده وزير خارجية فرنسا، جان إيف لودريان، في التلويح بورقة العقوبات الأوروبية على كل من يعتبر مسؤولًا بأزمات لبنان. على ما يبدو لم يستطع الفرنسي قراءة الواقع اللبناني وزواريب السياسة بشكل جيد؛ فقد اعتبر أن التلويح بالعقوبات قد يرهب مسؤولي هذا البلد، لجرّهم إلى تقديم الولاء للمبادرة، وهذا ما لم يحصل.
تعاني فرنسا في عهد ماكرون الذي شكل في وصوله إلى قصر الإليزيه، نقلة نوعية ومفاجئة عندما صوّت الناخب الفرنسي، الذي أوصل إلى سدة الرئاسة للمرة الأولى، شخصًا من خارج الاصطفاف الحزبي التقليدي. لكن قد تكون المرة الأخيرة أيضًا، إذ قد تكون الصفعة الثالثة له هي سقوطه بالانتخابات الرئاسية التي يتحضر لها في عام 2022، ما يعيد إلى فرنسا في سقوطه، اليمين المتطرف لأول مرة في تاريخها الحديث.
يبقى السؤال «هل ستستطيع السياسة الماكرونية إعادة تصحيح صورة الرئيس ماكرون في الداخل والخارج، وتنقذه من صفعة ثالثة يدفع ثمنها انتخابيًا على شاكلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويخرج إلى غير رجعة من ميدان السياسة في فرنسا؟
لم يفاجئ المطلعين ذلك التقارب الذي يحصل بين فرنسا وتركيا، والذي ترجم بلقاء على مستوى وزراء خارجية البلدين، رغم التصعيد الخطابي غير المسبوق في التهجم على الرئاسة الأولى بين الطرفين؛ إذ تجد فرنسا في تركيا، منقذًا لسياساتها في غرب أفريقيا لاسيما بعد الانقلاب الذي حصل في مالي، أو الفشل في ملف ليبيا، أو حتى الملف اللبناني. ومنقذًا لها في لبنان، في سبيل إنجاح مبادرتها عبر الدفع لتشكيل حكومة إنقاذية تدير الأزمة في لبنان، كما صرّح ماكرون في مؤتمره الصحفي قبيل افتتاح قمة G7.
بالمقابل، قد يكون التقارب التركي من فرنسا، يهدف إلى إبعاد شبح العقوبات الأوروبية على تركيا، نتيجة لتطور الأزمة بين فرنسا وتركيا. لكن الفرنسي يريد هذا التقارب كي يستفيد من الدور التركي وتأثيره في أكثر من ساحة على البحر المتوسط، وأهمها الساحة اللبنانية. لذلك، قد يستطيع ماكرون كسب الرهان على الدفع قدمًا نحو تشكيل حكومة في لبنان، بدعم من التركي، ما يحقق للسياسة الماكرونية نجاحًا، يمكن استثماره في الصوت الانتخابي لصالح وصوله إلى قصر الإليزيه مجددًا.