راكان محمد الوباري
حِسمى الحاسمة، حِسمى المُعاهدة، حِسمى الحاضنة، التاركة خلفها عبقاً عالياً، وماضياً مُخملياً، وتاريخاً يُحكى ويُدار، حِسمى التي قصمت وحسمت، ولعل ما يُمكن لي سرده أو حديثي عَنه قِيل مُسبقاً في معاجم تبوك وأشعار مَن رأى حِسمى وطابت له رُؤيتها، واقترفته محاسنها، ورأى بِها عجب العُجاب، فهِي الرابطة لأعظم قِصص الحُب عند العرب جميل بن مُعمر في (بُثينة)، فعِند نُزوله في جِباله أتى أخو معشوقته، وذكر وقالوا: يا جميلُ، أتى أخوها
فقلت: أتَى الحبِيبُ أخُو الحبيبِ
أحبك أن نزلتَ جبالَ حِسمى
وأن ناسبتَ بثنة من قريب
وكما عَبَّر أُدباء العرب والبلاغة عن حِسمى بمقولاتهم الباقي.. كما قال أبو علي: حِسمى هذه أطيب بلاد العرب وأخصبها.
فكيف إذ بِها كانت كالمملكة العُليا والشامخة وبوديانها ورجالها وراحلتها، فما أجمل الموطن الباهي الشامخ الكبير بمواقفه، ومما ذكر ابن السُكيت إثباتاً لنازليها وقاطنيها وأهلها: حِسمى لجذام جبال وأرض بين أيلة وجانب تيه بني إسرائيل الذي يلي أيلة وبين أرض بني عذرة من ظهر حرة نِهيا، فذلك كلهُ حسمى.
وما أكثر عظمة من إثبات السيرة النبوية لهذا الموطن وهذا المقصد، إنه في إحدى سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم تُسمى سرية زيدٍ إلى حِسمى: وقعت هذه السرية في جمادى الآخرة من السنة السادسة للهجرة حيث أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حِسمى وهو أرض وراء وادي القرى من جهة الشام وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل رسالة إلى قيصر مع دحية بن خليفة الكلبي يدعوه إلى الإسلام فأعطاه جائزة وكساه، وأثناء العودة لقيه الهنيد بن عارض فأخذ كل شيء كان معه عند حِسمى فسمع بذلك نفر من بني الضبيب رهط رفاعة بن زيد الجذامى ممن كان أسلم فاستنقذوا ما كان في أيديهم وردوه على دحية. قدم دحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما حدث فبعث زيد بن حارثة مع خمس مئة رجل فهجموا على القوم وقتلوا الهنيد وابنه وأخذوا ماشيتهم ثم جاء رفاعة بن زيد الجذامى في نفر من قومه فدفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه الذي كتبه له ولقومه حين قدم عليه فأسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً على زيد فردّ عليهم كل ما أخذ منهم.
وُصفت وبان وصفها مِن سيد الشّعراء وأكثرهم حداقة وشعراً، بأنها أرض طيبة تُنبت جميع النبات، وقال عن جِبالها أنها في كبد السماء، مُتناوحة ملساء الجوانب لا يكاد يُفارقها القِتام لذلك قَصد المتبني وقال بِها:
فأصبح عاقلاً بجبال حسمى
دقاق الترب محتزم القتام
هي بلدة القُصور الجبلية مِن ارتفاعها واستواء جوانبها واستقامتها، كجُدران ملساء شاهقة يتخيلها الغُراب ويحفظ مواقعها ويدلو بِها آمناً مُطمئناً.
كاد بِنا نحن أبناءها أن نعي طويلاً أن تِلك البُقعة أنجبت، وبنت بِها حضارة سامية يتعالى بِها سيد الموقف ويتغنى بِها البُلاّغ شِعراً وأدباً.