في الأيام الخوالي، كانت مرتبات ودخول الناس قليلةً، ولكنها كانت مُتْرَعة ببركة عظيمة، لا تبددها الأمراض والأرزاء، واليوم يتقاضى الموظفون مرتباتٍ كبيرة، ولا تكاد تسد رمقَ طمعهم، وإصرارهم على طلب المزيد في مطالب فئوية، ولا يعرفون حتى الآن سر عدم كفاية ما يتقاضون، بل بعضهم يلجأ إلى الاستدانة مرة تلو المرة، ولا يعلمون حقيقة أنها قد تكون منزوعةَ البركة.
وفي حياتنا قد تجد أسرة قليلةَ الدخل والجهد، ولديها سيارة متواضعة، ولكنهم يعيشون حياة سعيدة تتمتع بالبركة.
وعلى النقيض، ترى أسرة تحيا في القصر المَشِيد، ولديها أرتال من المركبات الفارهة، والمتع الفاخرة، وتتحسر على تلك البركة والسعادة التي يحياها من يعيش في الكوخ المَهِين.
إنها البركة التي كان الصالحون يستجلبونها بالإيمان والتقوى، والبعد عن المحرَّمات، والإخلاص في العمل، وإغاثة الملهوف، والالتزام بقيم الإسلام فعليًّا، واليقين فيما عند الله من رزق حلال.
تلك القيمة التي نعدها أمَّ القيم؛ لأنها باختصار قيمةٌ باطنة، هي ثمرة الالتزام بقيم ظاهرة:{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}.
البركة يا سادة أن يبارك الله - عزَّ وجلَّ - لنا فيما أعطانا مِن مال وزوجة، وذريَّة ومنزل، وعلم وعمر، وبيع وشراء، وغيرها، وإذا باركَ الله لك في شيءٍ كان خيرًا عليك، ونفعَك قليلُه، وإذا لم يباركْ لك فيه كان شرًّا عليك، ولم ينفعك حتى وإن كَثُر.
ولو استعرضْنا حالَنا يا عباد الله حينما نُزِعتِ البركةُ منَّا، لوجدنا ما يُحزن، الذرية التي يقول الله عنها: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، صارتْ عندَ بعضِ الناس مصدرَ الشَّقاء والمتاعب، لماذا؟! لأنَّه لم يُبَاركْ فيهم.
الزوجة التي يقول الله عزَّ وجلَّ عنها في كتابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} تسكنوا إليها؛ أي: تألفونها، وترتاحون وتطمئنون إليها، أصبحت عند البعض لا أُنسَ ولا مودة ولا رحمة، مشكلات وخِلافات، ومحاكم، لماذا؟! لأنَّه لم يُبارَكْ فيها.
نُزِعت البركةُ مِن أموالنا وأرزاقنا، الواحد يملك في الشَّهْر ألفين أو ثلاثة، أو أربعة أو خمسة، أو أقل أو أكثر، يأتي آخِر الشهر لم يَبقَ منه شيءٌ، ولا يدري كيف صَرفَه، لماذا؟! لأنَّه لم يُبارَكْ فيه.
التاجر يملك الملايين، وتجدُ جيرانَه وأقاربه وذوي رَحِمِه فُقراءَ محتاجين لا يتصدَّق عليهم، مسكين هذا، يعيش يشقى بماله، يموت لم يَبْنِ له مسجدًا أو وقفاً ينفعه في الآخرة، لماذا؟! لأنَّ البركةَ نُزِعت مِن مالِه.
أغلى ما يَملِك الإنسان في الدنيا عمرُه، تَمرُّ سَنَةٌ وسنتان، والعشر سنين، والواحد منَّا مكانَه، يراوح في عبادته، في عِلْمه، في حِفْظه للقرآن، في تَفقُّهه في دِينه، وإن تقدَّم يسيرًا في أشياء ليس لها قيمة وتأثير، يعيش الواحدُ منَّا الستين سنة والسبعين سنة، وإذا قارنَ هذا العمرَ الطويلَ بما قَدَّم للآخرة، يجد الفرقَ واسعًا، والبَوْن شاسعًا، ربَّما لم يحفظْ جزأين أو ثلاثة من القرآن، لماذا كلُّ هذا؟! لأنَّه لم يُبارَكْ في عمره.
أوقاتنا أغلى وأنفسُ ما نملك، مهدرة، اليوم، الأربعة والعشرون ساعة في اليوم واللَّيلة، لو تأمَّلْنا كيف تذهب، لَحَزِنَّا على ذلك، نصف الوقت ضائعٌ، لماذا؟ لأنَّ البركة نُزِعت مِن أوقاتنا.
وممَّا يَزيدُ الأمرَ خطورةً: أنَّنا سوف نُسأل عن أعمارِنا، فيما أفنيناها وعن أموالنا فيما أنفقناها؛ أغلى شيءٍ نملكه، أغلى شيءٍ نملكه في هذه الدنيا نُضيِّع أكثره فيما لا فائدة فيه ثم ننشد البركة، إنَّها خسارةٌ عظيمة.
نُزِعت البركة مِن عِلم كثير منَّا، تجد الواحد عندَه شهادة جامعيَّة، أو خِرِّيج كلية علوم الشريعة، وليس له أثرٌ في أهله وجيرانه وأقاربه، كم سَمِعْنا من المحاضرات! وكم حضرْنا من مجالس العِلم! وكم قَرَأنا من كُتب! أين أثرُ ذلك علينا، وعلى أهلنا وجيراننا، ومجتمَعِنا؟! لا شيءَ، لماذا؟ لأنَّ الله لم يُبارِكْ في هذا العِلم، أو لأنَّ الإخلاص لم يكن في هذا العِلم،
هذا داء، فما هو الدواء؟ ما السبيل إلى حصول البركةِ؟ ماذا نعمل حتى تحصلَ لنا البركة، ونسعد بما يُعطينا الله من مال ونِعم، أو غيرها من الآلاء؟
هناك أسباب كثيرةٌ، أسباب عامَّة، وأسباب خاصَّة، أمَّا الأسباب العامَّة، فمنها تقوى الله والبُعْد عن المعاصي، اسمع إلى قولِ الله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، فقِلَّة البركة مصيبةٌ، سببُها أفعالنا، وسببُها معاصينا، ومِن الأسباب العامَّة لحصول البركة الدعاء، فبالدُّعاء تُستجلَبُ البركة، أن تَسألَ الله أن يُبارِكَ لك فيما أعطاك، وانظروا كيف يُعلِّمنا ربُّنا جلَّ وعلاَ سؤالَ البركةِ منه سبحانه في قصة نوح؛ قال تعالى حكايةً عن نوح: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}.
ومِن الأسباب أيضًا الجالبةِ للبركة صِلَة الرَّحِم فهي مِن أعظمِ أسباب حصولِ البركة؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن سَرَّه أن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسأَ له في أثرِه، فَلْيَصلْ رَحِمَه»؛ رواه البخاري، فَصِلَةُ الرَّحِم سببٌ للبركة في الرِّزْق، وسبب للبركة في العُمر، وقطيعةُ الرحم شُؤمٌ على فاعلها - والعياذ بالله.
وما يُدرينا -أيُّها الكرام- أنَّ ما نحن فيه مِن قِلَّة البركة في العمر والوقت والرزق، هو بسبب قَطيعةِ الرحم؟!، فمَن كانت عندَه رَحِمٌ قد قطَعَها من الوالدَينِ، أو أعمام أو عمَّات، أو أخوال أو خالات، أو أبناء عمومة، أو أيًّا كانت صِلةُ القرابة - فليسارعْ ويذهب إليهم ويصلُهم، ويُحسِن إليهم، حتى ولو أساؤوا إليه.
ومِن الأسباب الجالبةِ للبركة قِراءةُ سورة البقرة؛ فقد قال الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم: «اقرؤوا سورةَ البقرة، فإنَّ أَخْذَها بركة، وتَرْكَها حسرةٌ، ولا يستطيعها البَطَلة»، قال معاوية: بلغني أنَّ البطلة هم السَّحَرة.
ومَن أسباب البركة في الرِّزْق أداءُ الحقِّ الذي فيه، سواء كان هذا الحقُّ واجبًا، مثل الزكاة المفروضة، أو مندوبًا إليه غير واجب، مثل الصدقة، وغيرها قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما مِن يوم يُصبِحُ العِبادُ فيه إلاَّ ومَلَكانِ يَنزلانِ، فيقول أحدُهما: اللهمَّ أعطِ مُنفِقًا خَلفًا، ويقول الآخَرُ: اللهمَّ أعطِ ممسكًا تَلفًا»، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما نَقصتْ صَدقةٌ مِن مال»؛ أي: إنَّ الصدقة تكون سببًا للبركة.
ويبقى أن البركة مطلب ملح ولازم في حياتنا وأقواتنا فلنجمل الطلب ولنحث الخطى ولنكثر من الدعاء بأن يبارك الله لنا في أرزاقنا وأقواتنا ومعاشنا دبر صلواتنا وفي أسحارنا وسجودنا ولنحفظ أجوافنا من المطعم الحرام حتى تصح أجسادنا وأقواتنا وعقولنا.