د. محمد بن إبراهيم الملحم
من الجميل أن نتعرف على ما يحدث حولنا لنفهم كيف يجب أن نتقدم في تعليمنا، وقد اخترت لكم اليوم ما توجهت له سنغافورة مؤخرًا في تعليمها وبدأ تفعيله بشكل كبير هذا العام 2021، بينما كان تحت التجربة العام الماضي 2020، علما أنه أعلن عام 2019 ويتوقع أن يعمم على كل البلاد عام 2024 ويتعلق الأمر بالتعليم الثانوي في سنغافورة والذي يدخله الطالب بعد ست سنوات في الابتدائي بناء على نتيجته في اختبار نهاية المرحلة الابتدائية PSLE فيصنف الطلاب إلى 3 مستويات في قدرتهم الأكاديمية، أقلها الفئة المهنية Technical وأعلاها الفئة السريعة Express والمتوسطة تسمى الأكاديمية Academic، وينظر إلى هذا التشعيب أنه مؤذ للطلاب نفسياً ويؤصل نوعاً من التفرقة الطبقية، ومع أنه كانت له حاجة وفائدة في بدايات التعليم السنغافوري حيث عالج مشكلة التسرب من خلال توفير بدائل أسهل للطلاب الأقل قدرة علمياً، حيث في السبعينات انخفض التسرب من 30 في المائة تقريباً إلى أقل من 1 في المائة لهذا السبب، بيد أن هذه الحاجة انتفت في وقتنا هذا حيث نضج الوعي العام ليس بأهمية التعليم فقط، بل بحتميته وضرورته، وقد جربت السلطات التعليمية السنغافورية أن تضع بعض طلاب المسار الأقل مستوى لدراسة مواد من المسار الأعلى واختبرتهم فيها ولاحظت أنهم حققوا نتائج مشابهة للطلاب الذين يدرسون في المستوى الأعلى أصلاً، مما أكد أن إخفاق الطالب في تحصيل درجة عالية في اختبار المرحلة الابتدائية PSLE الذي على ضوئه تم تصنيف الطلاب بهذا التصنيف يحتمل معه إمكانية تفوق أو نبوغ هذا الطالب في إحدى المواد لجودته أصلاً في موضوعاتها، بينما كان إخفاقه في المواد الأخرى هو السبب في عدم حصوله على الدرجة الكلية التي تؤهله لدخول مسار أعلى من مساره المنخفض الذي حل فيه للمرحلة الثانوية، ومن هذا المنطلق توجهت السلطات التعليمية السنغافورية لإعادة النظر في طريقة التشعيب الحالية وخرجت بنموذج آخر أكثر عدالة وأفضل في تحسين مخرجات الطلاب، وهو نظام التشعيب القائم على المنهج وليس على مستوى قدرة الطالب، وتتلخص فكرته في أن كل مادة من مواد المرحلة الثانوية تعمل لها 3 كتب كل منها يمثل مستوى G1 G2 G3 بحيث إن الطالب الذي كانت نتيجته في اختبار المرحلة الابتدائية لتلك المادة منخفضة سيدرس الكتاب الذي في المستوى الأول G1 ولكن من كانت نتيجته مرتفعة سيدرس كتاب هذه المادة في المستوى الثالث G3 ومتوط القدرة يدرس G2 وهذا يعني أن طالباً ما يمكن أن يدرس كتاب الرياضيات ذا المستوى G1، بينما يدرس كتاب مادة أخرى كالعلوم أو اللغة مثلاً ذا المستوى G3 وهكذا. وقد تمت تجربة هذه الفكرة في 25 مدرسة عام 2020 وسيتم تعميمها على كل مدارس البلاد عام 2024 وبالتزامن مع أول دفعة تتخرج بعدئذ فإنه بحلول عام 2027 سيتم تغيير اختبار نهاية المرحلة الثانوية من الاختبار الحالي GCE-O إلى اختبار وطني جديد متناسب مع المناهج الجديدة وتعد هذا الاختبار سنغافورة مع مؤسسة كامبرج للاختبارات.
وقد تزامن مع هذا النوع من التشعيب تحول في اختبار المرحلة الابتدائية PSLE حيث حدثت نقلة نوعية في منهجيته من الدرجات المعيارية T-Scores والتي تقارن الطلاب ببعضهم مما أوجد في السابق تنافساً شديداً أضر بكثير من الطلاب، إلى الدرجات الخام القائمة على تحصيل أهداف المقرر Criterion Referenced ولأن هذا الاختبار هو محور طريقة التشعيب الجديدة التي ابتعدت عن القدرة الأكاديمية العامة للطالب إلى القدرات الخاصة بكل منهج على حدة (لذلك اسموه التشعيب المنهجي) فإن تحويله من الدرجات المعيارية المقارنة إلى الطريقة محكية المرجع (تحقيق أهداف المادة) يلغي التنافس المحموم ويقلل من التأثير السلبي لهذا الاختبار الحاسم مما يرفع مستوى الإبداع لدى الطلاب ويجعل عطاءهم نوعياً أكثر ومتمركزاً حول التعلم Learning، وهو ما تتوجه إليه سنغافورة حسب كلمة وزير تعليمها أونغ يي كونغ حيث يشير إلى أن الطريقة الجديدة ستطلق طاقات الطلاب أكثر من ذي قبل.
ما أريد عرضه من هذا الخبر، هو كمية جرأة التغييرالتعليمي في هذا التطور المهم، وكيف بني على دراسات وكيف يتم التدرج فيه بوعي وأسس متناسبة زمنياً مع متطلبات التطبيق، كما أن الإجراء الجديد تضمن بعداً إنسانياً عظيماً في تحقيق مستوى متقدم جداً من العدالة والإنصاف للطلاب، لا سيما أن طالب السنة السادسة الابتدائية في سن 12 قد تصيبه ظروف تجعل من أدائه في الاختبار لا تعكس أبداً قدراته الحقيقية، مما يجعل من التشعيب القائم على المنهج وسيلة أفضل لإعطائه فرصة إثبات الذات، ولا ننسى أيضاً ما خلفته طريقة التشعيب السابقة والقائمة على مستويات القدرة الأكاديمية من مشاعر إحباط لدى كثيرين، كما تسببت في خسارتهم فرصاً أفضل لمستقبل حياتهم العملية فيما إذا لو أنهم لم يوضعوا في مسار أدنى من قدراتهم الحقيقية (والتي لا يعكسها الاختبار فقط).
** **
- مدير عام تعليم سابقًا