محمد سليمان العنقري
كورونا تحول من جائحة صحية إلى اقتصادية عالمية واسعة ومتنوعة الآثار السلبية وإذا كان اللقاح هو حل رئيس لتشكيل المناعة المجتمعية دولياً، وتترافق مع حقنه بعض الأعراض المؤقتة المعلنة والمعتادة في كل اللقاحات، إلا أن لقاح دول العالم للجائحة الاقتصادية هو الحقن الكبير للأسواق بالأموال الرخيصة، نتيجة خفض أسعار الفائدة للصفر تقريباً، لا يخلو من آثار جانبية لا يمكن حصرها جميعاً في الوقت الحالي، إضافة لعدم القدرة مؤقتاً على اتخاذ أي قرار يواجه هذه الآثار، لأن بعض ما يمكن اتخاذه من قرارات سيؤثر في نمو الاقتصاد العالمي وقد يعيدنا إلى مربع الأزمة الأول وهو ما لن تقبل به أي دولة خصوصاً الدول العظمى التي تكافح للخروج من الأزمة الاقتصادية التي خلفها هذا الفيروس مع الحرص في الوقت ذاته على استيعاب الأعراض الجانبية السلبية للمعالجات التي اتخذت.
فالقرار الجيد كما هو معلوم الذي يقلل من السلبيات وعندما اتخذت الاقتصادات الكبرى قراراتها لمواجهة الأزمة الاقتصادية كانت تعي تماماً أن الأعراض الجانبية لما تم استخدامه من معالجات لا بد من التعايش معها مؤقتاً ويأتي على رأسها التضخم الذي بدأ يرتفع لكن بطريقة أكبر وأوسع من التوقعات نسبياً، مما رفع من درجة القلق لدى الاقتصاديين والمستثمرين في أسواق المال، تحديداً من أن تضطر البنوك المركزية الكبرى كالفيدرالي الأمريكي أو البنك المركزي الأوروبي لاتخاذ إجراءات متشددة في سياستها النقدية لكبح التضخم الذي من المؤكد أنه سيتجاوز النسبة المستهدفة من قبلهم عند 2 في المائة لكن في المقابل فإن هذه البنوك الكبرى تطمئن الأسواق بأن هذا التضخم مؤقت وسيبدأ بالتراجع نهاية العام الحالي عندما يعود الاقتصاد للعمل بكل أنشطته بشكل طبيعي، لكن في المقابل فإن هذه الطمأنة ما زالت تحتاج إلى تأكيدات مع كل اجتماع لأعضاء البنوك المركزية في كل منطقة جغرافية كبرى في العالم، لأن المتعاملين في الأسواق يشعرون أن البنوك المركزية الكبرى تقع تحت ضغط كبير بين حرصها على تعافي الاقتصاد ببلدانها وبالتالي في العالم والسيطرة على التضخم من جهة أخرى نظراً لما له من تداعيات خطيرة لو استمر بوتيرة متسارعة كما هو قائم حالياً وقد قال بنك أوف أمريكا إن التضخم سيستمر مرتفعاً أربعة أعوام مقبلة في أمريكا.
أما التداعيات الأخرى فتتمثل في ارتفاع حجم الدين السيادي العالمي بنسب عالية، فهو يقارب 68 تريليون دولار هذا بخلاف ديون السركات والأفراد حيث يتخطى المجموع الكلي للديون 250 تريليون دولار أي أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج الاجمالي العالمي البالغ نحو 82 تريليون دولار، فالخوف من أن تتخلف الدول الفقيرة عن السداد وحتى بعض الاقتصادات الناشئة خصوصاً من أمريكا اللاتينية، فبعض الدراسات تشير إلى احتمالية تخلف نحو 85 دولة عن سداد ديونها وأن تطلب تأجيل السداد أو إعادة جدولة قروضها بالرغم من أن مجموعة العشرين عملت على مبادرة تأجيل سداد قروض تلك الدول الفقيرة حتى نهاية هذا العام لكن الفقر الذي زاد بتلك الدول وتردي أوضاعها الاقتصادية ينذر بأن أزمة عدم قدرتها على سداد قروضها ستطول أكثر من هذا العام، خصوصاً في دول إفريقية مما يعني احتمالية تكرار أزمة 2008 المالية، لكن بأثر مختلف كون من ستخلف عن السداد هي دول وليست شركات فقط ومن التداعيات أيضاً ضعف القدرة على خفض البطالة، فهي تمثل تحدياً كبيراً، فمع فقدان عشرات الملايين من الوظائف وتزايد أعداد جيوش العاطلين إلا أن إعادتهم لأعمالهم تواجه تحديات كبيرة، فقطاعات السياحة وخدماتها لا تبدو أن عودتها سهلة مع هذه التحورات المتسارعة بفيروس كورونا التي عادت دول عديدة لتسجيل ارتفاعات بالمصابين ممن تلقى عدد جيد من سكانها اللقاح مثل بريطانيا وغيرها من دول أوروبا، كما أن الاعتماد الذي زاد على التكنولوجيا وتقنياتها في إدارة الأعمال أدى لسرعة التفكير بتقليص عدد الموظفين لصالح الآلة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وهو ما سيغير وجه سوق العمل عالمياً بوتيرة أسرع من تغيير مخرجات التعليم للتوافق مع التغير السريع بطبيعة الأعمال وأساليب إدارتها وإنجازها.
لا شك أن لكل علاج آثاراً جانبية تختلف مدة بقائها بجسم متلفي العلاج حسب خطورة المرض وتركيبة الأدوية المستخدمة وهذا ما ينطبق أيضاً على العلاج الذي حقن به الاقتصاد العالمي فبقدر ما أعاد النشاط للاقتصاد العالمي وبدأت تظهر نتائجه الإيجابية سريعاً، لكن الأعراض الجانبية ظهرت بحجم يعد نسبياً أكبر من المتوقع من حيث سرعة ظهورها كالتضخم وكتلة الديون الضخمة والتغيرات في أسواق العمل مما وضع الجميع في حيرة حول ما يمكن اتخاذه من إجراءات لمواجهة التضخم وفي الوقت نفسه تعزيز النمو الاقتصادي، فكل أثر منهما له طريقة في المعالجة تتناقض مع بعضها وهو ما يؤرق العالم ويتطلب وضوحاً أكثر من البنوك المركزية حول سياساتها المقبلة وهل هي متأكدة من السيطرة عليها خصوصاً التضخم؟