سمر المقرن
في كل مرّة أزور أياً من مدن ومناطق المملكة، أشعر بفرحة غامرة، فاستكشاف الكنوز السعودية متعة حقيقية أجدها في كل مكان، بل إن دخولي إلى أعماق الحياة والتاريخ والتراث لكل منطقة يمنحني رؤية لامتداد الحاضر، وبالنسبة لي فإن هذه الحالة الاستكشافية لا تقتصر على المكان وحده، بل إن شعوب المملكة تختلف صفاتهم وخصائصهم من منطقة لأخرى، نعم هناك تشابه كبير لكن أيضاً هناك اختلافات تشبه لوحة الفسيفساء في التلاحم كما تدور في مخيلتي لتُكمل كل قطعة الأخرى.
محاولة استكشاف الإنسان من كل منطقة أصعب بكثير من محاولة البحث في تاريخ أو تراث أو في قصص وحكايا الناس في تاريخ المكان، هناك فعلاً خصائص وصفات لأهل كل منطقة تُعبر عن تاريخها وحضارتها وقدرتهما على تشكيل الصفات والطباع الإنسانية من منطقة لأخرى.
كانت آخر زيارة أجريتها الأسبوع الماضي إلى محافظة شقراء، لن أنكر ولن أكابر بل سأعترف عن رضا وطيب خاطر، أن شقراء تسكنني رغم أنني لم أسكنها، لم أزرها في حياتي سوى مرة واحدة في طفولتي، واليوم ذهبت إليها وكان اللقاء الأول بيننا مذهلاً، فعندما كنت في الطريق إليها من الرياض كانت هناك مشاعر غريبة في داخلي، لم أشعر بها من قبل عند السفر إلى أي مدينة في المملكة، وعندما اقتربت شعرت بخفقان لذيذ في قلبي وكأنني أفتح ذراعي لأحضن إنساناً غالياً لا تقل محبته عن أقرب الناس لي، بل كنت أحضن هذه المدينة بصدق وبشعور امرأة عاشقة لأرض أنجبت أبي الحبيب.
دائماً عندما أذهب إلى أي مكان وتأخذنا أحاديث المجالس يكون التعليق في خِضّم الضحك والسواليف يتكرر فيه عبارة: (أنتم يا أهل شقراء غير) وفي هذه الزيارة أدركت لماذا نحن أهل شقراء لنا صفات تميزنا، بل إن أكثر ما يتردد وأسمعه كثيراً أن أغلب أهالي المملكة بل وحتى من غير السعوديين يحبون الاقتراب والتعامل مع أهل شقراء، حتى إنني في نهاية الرحلة قالت لي صديقتي التي رافقتني إلى شقراء: (الآن عرفت سبب أخلاق وسماحة والدك).. إنني هنا لا أمتدح وإن مدحت فهذا من حقي، فالعاشق لا يُلام والابن لا بد أن يحب والده وأمه، وشقراء هي أم وأب، وهي أناس طيبون يتشابهون بصفات الهدوء والرزانة والتسامح وخفة الدم المشهورة عنهم والتي تزخر بها حكايا الأهل في المجالس بل وحتى في قصص التراث وأشعاره.
لن أنكر أنه في كل مكان ذهبت إليه وأنا في رحلتي إلى شقراء، كنت أشعر أنه يخصني وأن في كل مساحة من هذه الأرض مشى عليها نساء ورجال يحملون دمي ولوني وشكلي وصفاتي، كنت أرى جدتي هيلة رحمها الله، وكأنها تمشي أمامي في سوق حليوة، رأيت جدي وكأنه يجلس في قصر السبيعي الذي كان يعمل فيه، رحمهم الله، كنت أرى في كل زاوية شيئاً يخصني، كنت أتجول في المنطقة التراثية وأرى الأبواب وأفتحها وكأني أبحث عن أشيائي الشخصية، عن المكان الذي ولد فيه أبي، عن الشارع الذي كان يلعب فيه، عن قصصه وحكاياته وقصص جدتي التي ازدهرت بها ذاكرتي منذ الطفولة. لم تكن رحلتي إلى شقراء كأي رحلة أستمتع بها بالبحث والفخر فحسب بل كانت جولة تنتعش بمشاعر المحبة الأسرية التي لم تكن من طرفي فقط، بل كانت في وجوه وألسنة كل الناس الذين قابلتهم.
شكراً شقراء التي بقيت كما هي بكل جمالياتها، شكراً لهذا الاهتمام الكبير بالتراث الذي جعلني أرى القصص القديمة تتجسد في كل زوايا المنطقة.