في كلّ مرّة أكتب فيها, أشعرُ أنَّ الحروف تطاوعني, والأفكار تركض بخيلها ورَجلها, وتقول لكلماتي: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب! لكنّي -هذه المرّة- وجدتُ نفسي على غير ما هي عليه, فالحرف صائم, والفكر حائر, والحزنُ عميق, والفجيعة تُعمي وتُدمي..
عاد العيدُ بأمّي سعيدا, وفي يوم الأحد 4-10-1442هـ رأيتُ في المنام أنّي أسيرُ في طريقي حزينًا, وكأنّ هاتفًا يقول: إنّ أمّك ستموت. وبعد صحْوي مرِضَتْ نفسي من هذا الكابوس المؤلم, ولم أُبدِ هذا المنام لأحد, وبعد يومين مرضت أمي فجأة, فكنتُ أشدّ الناس همًّا, وغمّا, وكمدًا؛ خشية أن يقع ما رأيت, ثم ازداد المرضُ, وأخبرني الطبيب أنّ رئتيها أصيبتا بالتهابٍ رئوي, فوقع الخبر كسكّينٍ غُرست في صدري, وخرجتُ من المستشفى هائمًا تتخطّفني دروب الحزن, وسراديب البكاء, وأزقَّة الدموع.. متذكّرًا الكابوس المريع, الذي لا أستطيع أن أرويه لأحد.. مرّ شهر, فماتت أمي حقيقةً لا مناما..
في وفاة أمّي.. فتحتُ باب الذكريات معها, وتذكّرت طفولتي, وصباي, وشبابي.. ولو تحدّثتُ عن حبّ أمي لي, لقال آخرون: هكذا تُحبّ كل أم ابنها.. لكنّي رأيتُ منها رحمة أمّ, وعطف أب, وتوقير صديق, وإحسان كريم.. وقبل أن أصبح في سنّ المدرسة؛ كانت تنتظر استيقاظي من النوم, كما ينتظر أحدُنا يوم عرسه, أو كما ينتظر أبٌ مولوده الأول. وفي كلّ صباح تراني فيه, تصفّق بيديها الجميلتين, قائلة عبارتها اليوميّة: «جاء الأمير.. جاء الأمير..», وهي ضاحكة مستبشرة, وكأنّي فجرٌ بعد ليل بهيم. ولمّا أسرجتُ خيلي طالبًا في المرحلة الابتدائية, كنتُ أرى الرحمة في عينيها, وهي تشيّعني بدموعها عند باب بيتنا, ووالله ما خرجْتُ يومًا إلى المدرسة إلّا بثوب جميل, وعطرٍ بهيّ, وشَعر مصفّف, ولا ترتضي إلّا أن أكون بهذه الحال في كل يوم, دون كللٍ منها أو ملل. ومن يعرفُ أمّي لا يعجبُ من وصفي, فهي المُحبة للجَمال, ولا ترضى بغيره بدلا. وحين تَحلّ الاختبارات النهائية -في كلّ مراحلي الدراسية, حتى في مرحلة الدكتوراه- كانت تقول لي: أنا الذي أختبرُ وليس أنت, إذ تجدني في نَصَب, ووصبٍ, وهمٍّ, وقلقٍ, فتتعبُ كما أتعب, وتبكي كما أبكي, وتسهر كما أسهر, وكم من ليلة سهِرتْ فيها معي, وكم من صباحٍ قلقت فيه؛ حتى أعود من الاختبار, فتسأل عن صعوبته؛ كي تقرّ عينها ولا تحزن, وكم من مرّة خرجْتُ فيها من المنزل خائفًا أترقّب الاختبار وصعوبته, ثم أطلب منها أن تدعو لي, فتدعو وتطيل, وتبكي, وتستودِع.
وفي الصف الثاني الثانوي مات أبي فجأة, وهو في قوّته, وصحّته؛ فتولّت أمي أمرنا من بعده, فصارت أُمًّا وأبا, تحنّ وترحم, وتوجّه وتُرشد, وقبل ذلك: كان أبي حكيمًا مُربّيا, فقد علّمني القيادة والإدارة منذ وعيت الدنيا, وكان أكثر توجيهه لي, قوله: إن متّ فكن رجُلًا من بعدي, تخدم أمّك, وترعى أخوك وأخواتك, فلما مات, عادت عبارته جذَعةً, فنويت -حينها- أن أكون ساعد أمّي القوي, ودعوتُ الله أن يعينني حتى لا تشعر أمي بفقد أبي, ولا يشعر إخوتي بيُتمهم, فصرتُ صديق أمي, وحبيبها, ومستشارها, ووالله إني لا أذكر أنها قضَت أمرًا إلّا استشارتني فيه, ولا أعجب من استشارتها في كِبري, وإنما الدهشة أن تستشير, وأنا رقيق الغصن, لم تصقلني الأيام بتجاربها, وكأنها رسالة منها -رحمها الله- بأن أكون أهلًا للثقة, ومحلًّا للمسؤولية. ولو سألني أحدهم: كيف كانت تُعاملك؟ لقلت: إنها عاملتني بـ(المحبة), و(التقدير), فأمّا المحبة فلا يخلو منها قلب أمّ, وأما التقدير, فخجلي كبير من أمي, فلم ترني قادمًا إلّا وقفَت, وكلما حلفتُ ألّا تقفَ؛ أنكرتْ طلبي, وإن علمتْ خبرًا سارّا؛ أسرعَتْ تبشرني, وإن ضاق صدرها من شيء, أخفتْه؛ حتى لا أتكدّر. وعند زفاف أخواتي تشكرني -ولستُ أهلًا للشكر- وتدعو, وأرى البهجة في عينيها, وفي تقاسيم وجهها, فكانت حياتها معي حُبًّا وتقديرا.. ولم يكن الحُب منثورًا في قارعة طريقي, وإنما هو مبدأ يجري في عروقها, رآه الكبارُ ببسمتها التي لا تغيب, وعرفه الصغار بهداياها وحلواها. وكلّما قرأتُ قصص الحُبّ في الأدب, لاحت لي صورة أمي وأبي, فقد أحبّته, وأكرمته, وأعزّته, ورفعت شأنه عند أصدقائه, وقد قالت لي قبل أشهر من وفاتها: إنّي طبخت في ليلة واحدة ثلاث مرّات لضيوف أبيك, ولم أتأفّف أو أتكدّر. وقد أعانت والدي -رحمهما الله- حين فتح بيته لجيرانه عصر كلّ يوم, يسعد بهم, وهم يشربون من قهوتها التي صنعتها بالحُبّ, فتَعطّر بها مكانهم, وابتهجت بها أرواحهم, وحين مات أبي, أوصتني بأصدقائه خيرا, وأن أكون معهم كما يكون الابن مع أبيه. وقد لمس أبي من أمّي هذا الحبّ العميق, وأسرّ لي مرّة بقوله: لن أتزوج امرأة أخرى, إنّ أمك وفيّة أصيلة, وقصّ لي من خبرها: أنّه نام ليلة فانطفأ التكييف, فأخذت قطعة قماش ترّوح بها على رأسه يمنة ويسرة؛ حتى لا يحسّ بالحرّ وهو نائم! فأيّ وفاء هذا! وذات ليلة عاد إلى منزلنا, فلم يجد أمي, إذ مرضت فجأة, وذهبت إلىالمستشفى, وأجري لها عملية جراحية, فصعقه الخبر, وكتبَ قصيدة, وطلب أن يسمعها منّي, ثم أذهبُ إليها وأقرأها مرّة أخرى.. وكانت قصيدة شعبية أحفظ منها:
قلبي احترق داخل ضلوعي بلا نار
ما غير حِرٍّ يصهرنْ في ضميري
ما بي مرض يا ناس ولا قل دينار
مير الله الوالي عليمٍ خبيري
جيت الأخير من كشتتي يمّة الدار
قلت الخبر؟ قالوا: عشيرك مريضي
وقفت أنا مبهور والفكر محتار
مرّ ألتفت يسار ومرٍّ يميني
رفعت كفّي للولي وال الأقدار
يشفي مريض راقد بالسريري
ويفكّها المعبود من شرّ الأشرار
وترجع كما كانت ويا سعد عيني
فلما قرأتُ أبياته عليهِ, فإذا هو يكفكف دموعه, ثم ركضت إلى أمي, فقرأت أبياته, فكان حالها كحاله أو يزيد! ولمّا مات أبي أقسمَت ألّا تتزوج من بعده.. وكانت تحثّني أن أسيرَ سيرَه, في الترحيب بالضيوف, وطلاقة الوجه, وزيارة المريض, وصلة الرحم, والإحسان إلى الجار..
لقد كان أبي مدرسة تعلّمت منه أمي صفات الخير, وكانت معطاءة تعلّم منها البذل والكرم.
وحين كبرتُ, وكبرتْ أمي.. لم أعرف كيف أجازيها على صبرها, وإحسانها, وتقديرها, وتضحياتها الكبرى, ففكرتُ وقدّرتُ؛ لكنّي عرفت بأني عاجز عن الوفاء, وردّ الدين, فحاولتُ أن أتقي الله فيها ما استطعت إلى ذلك سبيلا, وقد أكرمني ربّي بأن سكَنَت في بيتي, وكنتُ أقول في أيّام كثيرة: يا ربّ اجعل أمي راضية عنّي, وكنتُ أقول: اللهم إني أشعر بتقصيري معها, لكنّي أحاول.. وما سافرتُ إلى مكان إلّا أخبرتها قبل ذهابي, وحين أصل إلى وجهتي؛ أتّصل بها كي تقرّ عينها فرحة بسلامتي. وحرصتُ أن أكون قريبًا من أخي وأخواتي, بِرّا بها, وإحسانًا إليها, وتطبيقًا لوصية أبي: بأن أكون لأمي وأخي وأخواتي خير خلَف..
ولمّا مرضت أمي مرض الوفاة, حرصتُ أن أذهب بها إلى المستشفيات بنفسي, حتى لا ألوم نفسي على تقصير, وحين أدخل المستشفى للسؤال عنها, تتثاقل خطواتي, وترتعد أطرافي, ويزيد نبض قلبي, وأشعر بالوهن والخوف, ثم أخرج منهم خائفًا أترقّب, وأبكي, وأتوجع, وحين وضعوا فيها (الأكسجين)؛ افتقدَت روحي (الأكسجين), فقد أحببتها صغيرًا, وصارت لي أبًا بعد رحيل أبي, وأشفقَتْ عليّ في كبري, وكانت تعرف منّي هذا السؤال: (يُمّه وش بك؟), كلما أحسستُ بتعب يُرسم على وجهها, ومنذ دخولها المستشفى لم أسأل أمي, ولم أرَ أمي, ولم أسمع أمّي, على الرغم من حاجتي إلى سؤالها: (يمّه وش بك؟).
تتعب أمي.. فأمرض أنا.
تتألم.. فأبكي أنا.
تسبح في آلامها.. فأغرق أنا.
تنام في المستشفى.. فأمرض أنا.
نومي يشبه الصحو, وصحْوي أشبه بالمنام. وفي يوم الاثنين, الموافق 11-11-1442هـ.. الساعة (العاشرة, وتسع دقائق), اتصلوا بي, وقالوا: أمك ماتت..! تعال لتكمل الإجراءات!.. صاعقة!.. مخيفٌ هذا النبأ العظيم.
لقد رحلتْ أمّي من الدنيا ولن ترحل من قلبي, وإنَّ أحرّ المشاعر أن تبقى واجمًا, يشتعل لهيب الفجيعة في قلبك, وتعجز عن دمعة تطفئه. أن تهرب إلى النوم, فتلوح صور أمّك ضاحكة مستبشرة؛ فيهرب النوم, وتسهر الآلام. تُسأل عن شعورك بعد دفنها؟ فتقول: إنّك أصبحتَ طفلًا ضائعًا في زحام الحياة, يبحثُ عن أُمه, فلم يجدها.. ولن يجدها. وا حرّ قلباه!
وسألني: هل رأيتَ أفجع من لحظة الموت؟ فقلت: ذكريات الأموات, يزوروننا في المنام, ونراهم في الأعياد, ويضحكون في الأعراس, قصصهم تُذكر, وأطيافهم لا تغيب, نراهم في غُرفهم التي تركوها, وفي أماكنهم التي هجروها, ثم إنّهم يعيشون معنا حتى نموت.
وأخيرًا: كنتُ طائرًا أُحلّق بجناحين من الذلّ والرحمة فانكسر جناح أبي, وسرتُ في دروب الحياة يتيمًا أرعى الحزن والوحشة, ثم انكسر جناح أمي؛ فأحسستُ أنّ قلبي طفلٌ صغير يبكي باحثًا عن أُمّه, والناس من حوله يبكون, ويقولون: ستأتي إليك بعد قليل.. ولن تعود.
{رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
** **
- د. سليمان بن فهد المطلق