د. تنيضب الفايدي
ويبعث أهل مكة الفداء لأسراهم في غزوة بدر، ليتمّ إطلاق سراحهم حسبما جرى عليه من اتفاق، وكلّ أسرة أرسلت فداء لأسيرها لكن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تجد في منزلها ما تفكّ به أسر زوجها أبو العاص بن الربيع، حيث خلا منزلها من أي مال يكفي لترسله فداء لزوجها، حيث كانت حياة زينب حياة كفافٍ، ولم يكتنز زوجها مالاً أو ذهباً لترسله مع الفداء الذي سلمه أهل الأسرى من مكة، وعندما وضعت يدها على صدرها تذكرت القلادة التي أهدتها إليها والدتها خديجة، تلك القلادة هي أهم ما في جهاز عرسها، والزوج غالٍ، فنزعتها من صدرها وأرسلتها فداءً، فقد ورد في السيرة الصحيحة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها، وكانت لخديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق رقة شديدة، وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا» فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه، وردوا عليها الذي لها.
كيف لا يتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤية تلك القلادة، إنها قلادة الكاملة حسناً وعقلاً وجمالاً، لقد تتابعت عليه الذكريات، وأثارت مشاعره صلى الله عليه وسلم، إنها قلادة من كان النبي لا ينسى ودّها، ولا فضلها عليه، قلادة زوجه خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي الأسدية، خديجة التي فازت بخدمته وتشرفت بعشرته وصحبته وآزرته ونصرته.
هذه القلادة كم رآها صلى الله عليه وسلم على صدر خديجة أوّل من صدقته وآمنت برسالته، وطمأنته وهدّأت من روعة عندما أوحى الله إليه: (كلاّ أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً) أبشر أزالت من فؤاده الخوف والرهبة، أبشر غرست الطمأنينة في نفسه.
عاشت زينب وهي ترى رأي العين ما يقابله أبوها من عداوات قريش وحقدهم وحسدهم ضد الدعوة المباركة، بل وعاشت وقلبها يملؤه الخوف على حياته المعرضة للخطر في كل لحظة من هؤلاء الجفاة الغلاظ مشركي مكة، كما أنها عاشت مع أمها بعد ما استبدلت تلك الأم العظيمة حياة الرخاء والرفاهية بالحياة القاسية الخشنة، وكم قاست زينب وأخواتها مرارة الجوع والعطش والحرمان من ملذات الحياة ولاسيّما عند حصار آل البيت في الشعب، لقد واجهت زينب في شبابها الكثير من المآسي والمحن.
لقد حضرت وفاة والدتها العظيمة مع أختها أم كلثوم، وأختها الصغيرة فاطمة، أما رقية فمع زوجها عثمان بن عفان بالحبشة. ورأت بكاء أبيها على زوجه المخلصة خديجة، ورأت والدها وهو يلقي النظرة الأخيرة على وجه أمّها السمح، ورأت جسدها الطاهر يحمل من البيت المبارك حيث تدفن، ونزل صلى الله عليه وسلم قبرها ليؤنسها لحظات في قبرها، وما أقسى الفراق، وما أشد مرارة الحزن وعاد إلى المنزل ليشارك بناته (زينب، أم كلثوم، فاطمة) بكاءهن على فراق الإنسانة الكاملة، وأصبحت زينب المسؤولة عن هذا المنزل الذي أصبح في حزن عميق، وأصبح ذلك العام «عام الحزن»، وذكرته تلك القلادة بهذا العام، وأصبحت زوجه خديجة ملازمة له حتى بالصوت فبعد عدة أعوام من وفاتها، يسمع صوتاً مشابهاً لصوت خديجة.. إنه صوت أختها «اللهم هالة» فكان ذلك، ويكرم امرأة لأنها «كانت تأتيه أيام خديجة».
ومن معاناة زينب أنها أحبت زوجها أبوالعاص بن الربيع، علماً بأنه لم يسلم في الأعوام الأولى من الهجرة وإنما أسلم متأخراً، كما أنه أحب زوجه زينباً وكان شاعراً ويعلن ذلك الحب شعراً سارت به الركبان يقول:
ذكرت زينبَ بالأجزاعِ من إضمٍ
فقلتُ سقياً لشخصٍ يسكنُ الحرما
بنتَ الأمين جزاها الله صالحةً
وكل بعل سيثني بالذي علما
وفي الثلاثين من عمرها ودعت الدنيا، ودفنت بالبقيع وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازتها ورآه أصحابه على قبرها وعيناه تذرفان.