منال الخميسي
أن تكون دارساً لمجال من المجالات ومتعمقا فيها بدرجة بالغة الدقة شيء وأن تمارسه على أرض الواقع شيء آخر، قد يكون مغايراً تماماً لما تعلمت من قواعد وآداب وأُسس تقوم عليها مهنتك.
العمل الإعلامي على مختلف أصعدته وأقسامه المقروءة والمسموعة والمرئية تعرف دارسوه على مفهوم غاية في الأهمية المهنية الإعلامية، أو المهنية في العمل الإعلامي ووضع لها تعريف: المهنية في قدرة وسائل الإعلام على تقديم تغطية شاملة، وإحاطة جارية، لكل ما يحدث في البيئة الداخلية والخارجية للمجتمع في سياق يعطيها معنى.
المهنية كذلك في قدرة وسائل الإعلام أن تكون منبراً للرأي والنقد وأن تحافظ على دورها كناقد بنّاء وإيجابي. هناك العديد من الآداب والخطوط التي لابد للقائم بالعمل الإعلامي أن يكون ملماً بها ومقتنعاً بضرورة التقيد بها.
ولكن المجال الاعلامي تأثر في السنوات الأخيرة بظهور وسائل التواصل الاجتماعى التي أحدثت تطوراً جديداً في مفهوم العمل الإعلامي بل وأخلاقياته والتي جعلت من أي فرد في المجتمع وقتما شاء وبدون الحاجة لدراسة ولا تعمق ولا حتى إلمام بأبسط أخلاقيات وأساسيات تداول ونشر وتصوير ونقل للأخبار.
أوجد هذا الصخب نوعاً جديداً من الاستخدام اللا مسؤول لوسائل التواصل الاجتماعي وفرضها وسيلة جديدة من وسائل الإعلام فرضت على المجتمعات بكل عيوبها وسلبياتها واقتحامها للحياة الشخصية بلا وازع أخلاقي ولا ديني.
أنت اليوم تملك ببن يديك مؤسسة صحفية مصغرة تستطيع في أقل من ثانية واحدة أن تقلب موازين مجتمع وتوقع فتنة بين دول بأكملها بمجرد نقلك لحدث ما أو بمقطع قد يكون حقيقياً أو أجري عليه بعض التعديل إما بالحذف أو الإضافة كما يحدث في أعتى المؤسسات الإعلامية.
بين يديك ما يجعلك مخبراً صحفياً ومراسلاً إخبارياً ومذيعاً ورئيس تحرير وفريق إعداد يتلخص في شخص واحد المونتاج والإضاءة والمعدات الناقلة للصوت، كل هذا أصبح لدى شخص واحد قد يكون على مستوى الحدث، وقد يكون غير مؤهل خلقياً ولا دينياً ويفسد ما ينقل بأي طريقة أو وسيلة شاء.
ما درسه طلاب وممارسو الإعلام عبر سنوات بل وقرون مضت لم يعد هو الحاكم الأوحد في نقل وتداول الأخبار.
الأخلاقيات والخطوط الحمراء وآداب المهنة أصبحت سطوراً في كتب التاريخ
لابد وأن يعاد تقييمها ووضع أسس جديدة تحاول احتواء هذا الانفجار الهائل في نقل وتداول المعلومات والأحداث التي أصبحت تتجدد كل جزء من الثانية وسط تسارع رهيب وسباق محموم بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.
هناك عامل آخر يغفل القائمون على العمل الإعلامي عنه ألا وهو تدخل الأرباح في اختلاق سباق محموم بين مستخدمي قنوات التواصل الاجتماعي: الأرباح التي تجنى من التعليقات وعلامات الإعجاب والمشاركات في التطبيقات الجديدة التي كلما زادت كان لصاحب الخبر نصيب كبير من الربح المادي الخيالي الذي يجنيه وهو جالس مكانه دون تعب أو كلل.
الهوس المادي لدى الكثيرين من محدودي أو معدومي الدخل في كثير من المجتمعات جعل من أخلاقيات العمل الإعلامي كلمات فارغة المحتوى بل والمعنى فمن أجل جني الأرباح ليس عند الكثيرين خطوط يقفون عندها فيوجهون كاميراته وهواتفهم نحو أي شيء يعتقدون أنه سيحقق نسباً للمشاهدة أعلى حتى لو كان نقلاً لأحزان هؤلاء أو فواجع تحدث لغيرهم، بل وتحولوا إلى مخبرين صحفيين غير مؤهلين لا يستطيعون التفريق بين ما يجب أن يصور أو ينقل وبينما يندرج تحت كلمة العيب أو الحياء أو بلغة الدين (تقوى الله) ومراقبة الخالق في كل فعل.
ما يثير الدهشة أيضاً أن كثيراً من القنوات التلفزيونية والصحف المقروءة أصبحت تستقي أخبارها من هذه الوسائل بل وتنقل أحداثاً صُورت وأخباراً متداولة بدون تدخل أوحتى مونتاج أو تحرير متأثرة هي أيضاً بالجانب المادي وجلب أعلى نسب من التعرض والمشاهدة، فكل صحيفة أصبح لديها قناة على وسائل التواصل ليس لنقل محتواها فقط وإنما لنقل ما جد من مشاهد الفيديو وما تم تصويره من مستخدمي وسائل التواصل.
تغير المعنى المتعارف عليه لدى دارسي علم الإعلام من قائدي الرأي الذين يتابعهم الجمهور العادي باعتبارهم ذوي شخصيات مؤثرة وقدوة في فعل الكثير من الأعمال والتصرفات الجادة إلى آخرين تم تسميتهم (بالإنفلونسرز/influencers) الشخصيات الأكثر مشاهدة ومتابعة وخاصة من أجيال الشباب الذين تتفتح أعينهم يومياً على كثيرين من هؤلاء الذين قد يكون جزء غيركبير منهم يتعامل بحرفية ومهنية، والباقون قد يأخذون هؤلاء الشباب لطرق ومفاهيم قد تؤثر في الأيام القادمة تأثيراً غير محمود يجب الالتفات إليهم بشكل أكثر جدية وبتعقب أكثر حرفية. حفاظاً على أعظم ما يملك أي مجتمع ألا وهم الشباب.
ساهمت جائحة كورونا في انحسار الدور المدرسي والجامعي في تحذير الشباب والتلاميذ الصغار من التعرض للمواقع والصفحات التي تنقل أخباراً وأحداثاً مغلوطة عن كل شيء في الحياة العامة بدءا من التشكيك في الدين وأساسيات المجتمع وحتى العلاقات الأسرية وهدم صورة الوالدين والاهتمام بالدراسة فبرغم انتشار وسائل الاتصال ومنصات التعليم عن بعد إلا أنها لا تفي بالغرض من التفاعل بين الطالب وأساتذته وإعطائه قدراً أكبر من النقاش والإقناع وتفريغ طاقة الحوار والجدال مع معلميه وأساتذته وثم إفساح المجال لمثل هذه المواقع والتطبيقات للدخول إلى عقلية الأبناء ومحاولة زعزعة القيم والأسس التي تربوا عليها
وسائل الاتصال الاجتماعي ليست كلها عيوب كما أنها ليست كلها مزايا.
المجتمع الذي يعي فقط هو من يستطيع أن يطوعها كي تخدم أبناءه فقط يأخذ منها الجيد ويلفظ الردي. يقنن هذه الوسائل ويعد الأبناء كي ينتقي عقلهم الصالح من الطالح مدارس ومعاهد وكليات الإعلام وتكنولوجيا الاتصال لابد وأن يكون لها رؤية جديدة للتعامل مع هذه الوسائل والتطبيقات وألا تنساق وراء كل ما يتكالب عليه غيرهم وخاصة غير المناسب لمجتمعاتنا العربية وقيمنا الدينية.
ومحاولة العمل مع السلطات في المجتمعات العربية على تجريم التعدي على خصوصية الأفراد ونقل الأخبار المشوهة عنهم أونقل ما يخدش الحياء ويضعف العقيدة ويهدم الأسس الدينية التي يستند عليها المجتمع ككل.
الأخلاق من أهم ما دعا إليه ديننا الحنيف ورسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأخلاق هي أهم الركائز التي لابد وأن نهتم بها ونحن نربي ونعلم وننصح أتباع الأخلاق ووضعها نصب أعيننا يعيننا على استخدام كل شيء باعتدال.
إعادة تأهيل المجتمع للاستخدام النقي لوسائل التواصل ونقل الأخبار بلا تحريف أو تزوير، لابد من وضعها في الاعتباركذلك يجب على وسائل الإعلام التي تنقل المقاطع والأخبار التي تبث على مواقع التواصل أن تتحرى المهنية ومصلحة المواطن أوالفرد داخل المجتمع وليس فقط العائد المادي، العائد الاجتماعي واحترام عقل المتلقي من أهم ما يجب أوتقوم عليه أي مؤسسة صحفية.
الاهتمام كذلك بالشكل الذي تعارفت عليه المجتمعات للجرائد والمجلات لابد وأن يعود قوياً، التركيز في تصفح الجرائد والتعرف على الجهد الذي بذله كل من كتب فيها والرابط القوي بين القارئ ومن يكتب له لابد أن نتمسك به جيداً.
الخبر الذي يقرأ في الجريدة له مذاقه الخاص عند الذين يحبون الاطلاع والقراءة لا بأس من تصفح الأخبار والمقالات على وسائل التواصل ولكن الحفاظ على رمز القراءة أهم وأعمق.
الحفاظ على العملية الإعلامية ككل مسؤولية من يزاول مهنة الصحافة والإعلام.
تحري الأخبار الصحيحة من مصادرها يرفع من مستوى المصداقية لجريدتك أو قناتك الإخبارية وليس اللهث وراء أخبار وسائل التواصل.
خير دليل أن القارئ عندما يتحرى خبراً هاماً فإنه يذهب أولاً للصحف التي يثق بها، هذه الثقة لا تأتي من فراغ وإنما تأتي من العلاقة الوطيدة بين القارئ ومن ينقل إليه الخبر محترماً عقله ومبادئه وثم تنتقل المصداقية إلى من نقل لهم الأخبار فعقل المتلقي يستطيع أن يفرق جيداً بين ما هو صحيح وما هو مفبرك أو مشوه. علم الإعلام من أعظم وأنبل العلوم على الإطلاق.
تم تشويه صورته في الآونة الأخيرة بصورة لافتة ساهم في إفساد تلك الصورة انتشار تطبيقات وسائل التواصل التي كان لابد وأن تكون وسيلة إعلامية ناجحة لولا تدخل العنصر المادي والشخصي والجهل الأخلاقي بآداب وأسس هذه المهنة الجليلة.
من منا لم يحلم بأن بكون مذيع نشرة أو مقدم برامج أو صحفيا أو أديبا وكاتبا كان أمامنا أمثلة لشخصيات في قمة الحرفية والمصداقية والرأي الهادف، شخصيات احترمت عقل وقلب من يسمعها أو يشاهدها أو يقرأ لها فاستحقت أن تكون قدوة.
علينا أن نعود إلى الوراء مرة أخرى لا للوقوف مكاننا وإنما لأخذ الدروس واستحضار احترام مجتمعاتنا وأسرنا ووضع قوانين صارمة لكل من يحاول أن يفسد علينا نقاء مجتمعاتنا وأخلاق أبنائنا وتطلعنا إلى مستقبلنا.
الإعلام لابد وأن يعود أكثر احتراماً وأكثر مصداقية وأكثر أماناً.