عبدالرحمن الحبيب
التجارة كانت دائماً حاضرة مع الأولمبياد، فمنذ تنظيم أول دورة ألعاب أولمبية حديثة في أثينا عام 1896كان للإعلان التجاري دور وإن كان متواضعاً.. الأرباح المادية لم تكن أولوية للدول رغم أنها مربحة للشركات المُعلِنة، فمثلاً تكبدت أولمبياد 1976 في مونتريال و 1980 في موسكو خسائر بنفقات زادت بشكل كبير عن الإيرادات، إلا أن دورة 1984 في لوس أنجلوس بشرت بعصر جديد إذ كانت الأولى التي مولت أغلب تكاليفها الشركات الكبرى، وكانت من أنجح الدورات على صعيد الإيرادات المالية.
الأولمبياد هو المشهد الرياضي الأول في العالم فمن الطبيعي أن يكون للإعلان التجاري حضور قوي، فللرياضة احترامها وجاذبيتها فهي من أفضل الممارسات الصحية الممتعة ومن أسمى المنافسات بين البشر، لكنها في أولمبياد طوكيو القادمة تتعرض لامتحان قاس صحياً وأخلاقياً وحتى تجارياً. فرغم أنه من المعروف أن اليابان من أكثر الدول دقة وانضباطاً في كافة مناحي الحياة إلا أنه في موضوع التطعيم ضد فيروس كورونا كانت في مؤخرة الدول المتقدمة، مما أثار تساؤلات عن مدى سلامة إقامة الأولمبياد خاصة أن نصف الشعب الياباني يعترض على إقامتها.
القلقون على الصحة يرون ضرورة إلغاء الأولمبياد أو على الأقل تأجيلها حتى أكتوبر، والتي كان من المقرر عقدها في الأصل العام الماضي ولكن تم تأجيلها بسبب تفشي الجائحة.. يشير المدافعون عن التأجيل أو الإلغاء إلى أنه فيما يتعلق بكورونا، فإن اليابان ليست أفضل حالًا الآن مما كانت عليه قبل عام.. ورغم أن البلاد تمكنت من تجنب ارتفاع معدلات العدوى المروعة ومعدلات الوفيات التي شوهدت في بعض أجزاء أخرى من العالم، إلا أن أكثر من ثلثي وفيات كورونا في اليابان جاءت في عام 2021 وحده؛ فيما تسير عمليات التطعيم ببطء شديد، حيث تلقى أقل من 5 بالمائة من السكان لقاحهم الأول واضعاً اليابان في المرتبة الأخيرة بين الدول المتقدمة الرئيسية في الحملة العالمية للحصول على اللقاحات (مجلة فورين بولسي).
بالمقابل، اللجنة الأولمبية الدولية والمنظمون والحكومة اليابانية والمهتمون بإنعاش الاقتصاد الياباني يرون ضرورة إقامتها الشهر القادم باعتبار أنه لا موجب للتخوف طالما اتخذت كافة الاحتياطات الوقائية اللازمة مثل فرض حظر على المتفرجين من الخارج واقتصار الحضور على السكان المحليين شريطة ألا يتجاوز الحضور على 50% من طاقة الملعب الاستيعابية وإلزامية لبس الكمامات طوال الوقت.
قد لا تكون الدورة الأولمبية المقامة في أي مدينة مربحة للبلد مالياً، لكنها بالتأكيد مربحة للشركات المعلنة، فتجاوز النفقات في الميزانيات المعتمدة لتنظيم الألعاب الأولمبية أمر شائع؛ إذ ان متوسط التجاوز في الموازنة منذ دورة 1960 هو تقريباَ 156 % من القيمة الأساسية (صحيفة فاينانشل تايمز). أما الدورة القادمة في طوكيو فحتى بالنسبة للشركات المحلية المعلنة هناك مجازفة من فقد سمعة العلامة التجارية أو التشكيك فيها أو على أقل عدم وجود مردود مالي من تكاليف الإعلان؛ لكن المنظمين شجعوا المعلنين بالدور الصحي للرياضة والإعجاب العالمي الذي يحظى به شعار الحلقات الخمس للأولمبياد التي تابعها في ريو دي جانيرو عام 2016 نحو 3.2 شخص.. كما أن نصيب الأسد من إيراداتها لا يأتي من عدد الحضور بل يأتي من بيع حقوق البث التلفزيوني وصفقات رعاية الشركات الحصرية بموجب ما يسمى بالبرنامج الأولمبي الشامل. روج منظمو طوكيو لكل هذه المزايا، بالنسبة للرعاة المحليين، كفرصة للمشاركة في الاحتفال بخروج اليابان من عقود من الركود الاقتصادي، تمامًا كما احتفلت ألعاب عام 1964 بعد الحرب بتقديم «اليابان الجديدة» للعالم، كما يقول الاقتصادي الرياضي أندرو زيمباليست.
لا يمكن استبعاد الإلغاء في اللحظات الأخيرة، أو الارتفاع المفاجئ في حالات كورونا بعد أيام قليلة، حيث لا تزال أجزاء من اليابان تحت حالة الطوارئ، في الوقت الذي أظهرت فيه استطلاعات الرأي الأخيرة أن جزءًا كبيرًا من الشعب الياباني يفضل إما تأجيل الألعاب (مرة أخرى) أو إلغاء.. وهذا يضع الشركاء المحليين في مأزق، فما تم بيعه لهم على أنه فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة في كل جيل قد يهدد بتنفير المستهلكين في سوقهم المحلية (مجلة إيكونيميست).
تذكر الإيكونيميست أن بعض الرعاة قام بتعيين مستشارين لتقييم التأثير المحتمل على علاماتهم التجارية لتحديد إما الالتزام بالبرنامج أو الانسحاب.. يقول أحد المستشارين إن حملات التسويق «في حالة من الفوضى»، فمع عدم وجود متفرجين، لن تكون هناك عروض ترويجية في الأماكن أو ضيافة الشركات. ستكون مبيعات البضائع ضعيفة؛ جبال من معدات تحمل علامة وأعلام طوكيو 2020 سيكسوها الغبار. بالنسبة للإعلان، فإن الرعاة غير متأكدين من الرسالة الدعائية التي يجب أن تكون، أو ما إذا كانوا يتباهون بعلاقاتهم بشعار الأولمبياد.. بعضهم قد يبتعد عن الشعار احتياطاً ويرتبط بالرياضيين وقصصهم البطولية مع التأكيد على الوحدة والتكاتف وغيرها من السمات الأخلاقية الرائعة التي تشير إلى الوعي بوباء كورونا.. بينما قد يعمل بعض الرعاة على حملات مزدوجة بين هذا وذاك... فقد ظهرت أولمبياد طوكيو كحكاية مزدوجة بين الصحة والمال.