اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
مما لا شك فيه أن الكلمة المؤثرة والمسؤولة تمثل ثمرة العقل المتزن والخلق الحسن؛ لما يترتب عليها من قبول حسن في الوسط الذي يستمع إليها بصورة تنعكس على المتكلم وتجعله موضع احترام الآخرين وتقديرهم، بفضل الانطباع الجميل الذي يتولد عند المستمع على ضوء ما يسمعه من الكلام الهادف الذي يدعو إلى الخير وينهى عن الشر، وقد قال علي بن أبي طالب: من لانت كلمته وجبت محبته، وقال آخر: من عذب لسانه كثر إخوانه.
وخليق بالعاقل أن يعقل لسانه وينأى بنفسه عن الزلات والهفوات، فلا يتكلم بالكلمة إلا بعد التفكير فيها وتمحيصها واختبارها دون غيرها، لأنه لا يجيد الكلام إلا من يحسن الاختبار ويعرف ما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه من الكلام والكلمة سجينة لديه وإذا ما تكلم بها أصبح في سجنها، وآفات اللسان وسقطاته أكثر من أن تعد أو تحصى، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم» وقد قيل: صمت تسلم به خير من نطق تندم عليه.
وإذا كان الأمر يستدعي ما قرع بابه وجذب أهدابه فإن الكلمة عندما تكون من النوع الساقط الذي ينفر منه السمع ويمجه الطبع فإنها تكون وبالاً على المتكلم بها ومؤذية لمن يستمعها تبعاً لدرجة قبح على نحو جعل العرب يطلقون عليها اسم «الكلمة العوراء» لأنها تكسر عين الذي يتكلم بها وتفضح قصر نظره وقبح جوهره، كما أن التغافل عن هذه الكلمة يكشف عن سمو نفس الطرف المتغافل وترفعه عن ما لا يليق من الكلام تكرماً على غبره وتنزها عن الدنايا وقبيح القول والفعل. وقد قال الشاعر:
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه
ذليل بلا ذلٍ ولو شاء انتصر
والكلمة العوراء هي الكلمة القبيحة التي تهوي بقائلها إلى حضيض المكانة ودرك الإهانة نتيجة لغياب عقله وذهاب رشده، وقد أجمع الأدباء، والعقلاء على حث المستهدف بها على التغافل عنها ومحاولة تفادي التعرض لها كما ورد الحث على التغاضي عنها فيما قيل عنه بأنه أحكم مثل قالته العرب «دع العوراء تخطئك» أي لا تجعل نفسك هدفاً لها، بل دعها تذهب بعيداً عنك وقد قال الشاعر:
وأترك قائل العوراء عمداً
لأهلكه وما أعيا الجوابا
وقال آخر:
إذا قيلت العوراء ولِّيت سمعها
سوايَ ولم أسأل بها ما دبيرها
ولشناعة هذه الكلمة وقبحها فإنه كثيراً ما يمدح المرء بأنه لا ينطق العوراء، وبقدر ما يزم الناطق بها بقدر ما يمدح الذي يتسامى بنفسه عن النطق بها والمتغافل عن الرد على الذي يتكلم بها، منزهاً نفسه عن الانسياق وراء سفاسف الأمور وتصيد أخطاء الناس والانشغال بعيوبهم. وكما قال الشاعر:
وإني إذا أبدى العدو سفاهة
حبست عن العواء فضل لسانه
والتغافل يدل على قوة الإيمان بالله وهو من صفات الأنبياء التي تواتر ذكرها في النصوص القرآنية والسنة النبوية، كما أنه لا غنى لأي قائد من أن يتصف بهذا الخلق، حيث إن من حرم منه فلن ينجح في قيادته ولن يفلح في تأدية رسالته، انطلاقاً من أن مكارم الاخلاق يرشد إليها التغافل حيث يدرك المتمسك به قيمة كل من التسامح والصفح والحلم والعفو والإيثار والكرم، بالإضافة إلى امتلاكه قدراً من الذكاء والفطنة والعلم وكرم النفس وبعد النظر بالشكل الذي يجعله يرتفع فوق الهفوات ويستثمر الزلات بالتقاضي عنها والتكرم على أصحابها. وقد قال عمرو بن عبيد: لن يكون العبد مستكملاً اسم الولاية حتى يسمع الكلمة العوراء فيجعلها دَبْر أذنه، وكما قال أحد الشعراء مخاطباً معاوية:
إذا أنت لم ترخ الإزار تكرماً
على الكلمة العوراء من كل جانب
فمن ذا الذي نرجو لحقن دمائنا
ومن ذا الذي نرجو لحمل النوائب
وبدلاً من أن يتأدب البعض بآداب فضيلة التغافل ويراعي الحد الأدنى من مكارم الأخلاق التي يحث عليها الدين، ويحتاج إليها الناسف في الدنيا ذهب هذا البعض في الاتجاه المعاكس، متخذاً من مواقع التواصل منبراً له لتضخيم الشر وتحجيم الخير وإحلال الفضائح والعيوب محل التغافل وستر العورات وإقالة العثرات والتجاوز عن الهفوات والزلات.
وفي هذا الوقت الذي طغى فيه التعامل مع الكلمة عبر الفضاء الرقمي لم تعد الكلمة العوراء مستغربة عند البعض إلى الحد الذي فتح الباب على مصراعيه للسفهاء والغوغاء للتعاطي مع الكلمة كيفما اتفق دون التمييز بين الكلمة العيناء والعوراء حتى أن بعضهم يقع في الشر من حيث أراد الخير.
ولم يتوقف هؤلاء عند حدود النطق بالمحظور وسماعه بل بالغوا في النفخ في بالونه وتضخيمه عن طريق الترويج له عبر مواقع التواصل وتعظيمه، في الوقت الذي يتعين عليه التقليل من شأنه وتحجيمه والحط من قيمته وتقزيمه، بفضل التغافل المحمود الذي يصول الحقوق ويحفظ الكرامة دون أن يكون ذلك على حساب التدخل المباشر المشروع عندما تقتضي الضرورة وتستدعي الحاجة ذلك.
وينطبق هذا الوصف على أولئك الذين يحاولون التدخل فيما لا يعنيهم من خلال الخوض في أمور ذات طابع وطني، لا يحق لهم الخوض فيها لجهلهم في حيثياتها ومآلاتها، منطبقاً عليهم ما ينطبق على الغوغاء الذين إذا اجتمعوا ضروا وإن تفرقوا سروا.
وتجاوز الكلمة العوراء وإظهار الغفلة المتعمدة حيالها لا يعني التساهل في أمر ديني ولا التنازل عن حق مشروع، بل يعني ذلك ارتفاع المقام واتباع سنة الكرام والترفع عن ممارسات اللئام، وقد قال ابن المقفع: إن من إرب الأريب دفن إربه ما استطاع حتى يعرف بالمسامحة في الخليقة والاستقامة على الطريقة، وقال معاوية بن أبي سفيان: العقل ثلثه فطنه وثلثاه تغافل. وقال الحسن البصري: ما استقصى كريم قط.