د. محمد بن أحمد الصالح
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}.
فُجعنا وفُجع الكثير صباح يوم الأربعاء 13-11-1442هـ بالنبأ الأليم والخطب الجسيم الذي روعنا وشعرنا معه بالمرارة والألم والحزن العميق برحيل الغالية الحسيبة النسيبة سليلة الأكارم ووارثة الأفاضل أم طلال زكية بنت عبدالله المنصور أبا الخيل حرم صديقنا المرحوم النبيل عبد الرحمن الصالح الشبيلي، الرمز الثقافي الوطني المعروف ورائد الإعلام والتاريخ والسير.
والحديث عن الراحلة الكريمة لا يحسن قبل أن نتذكر أسلافها وأسرتها الكريمة، فوالدها هو السري المعروف الشيخ عبدالله المنصور أباالخيل المتوفى عام 1385هـ، من وجهاء القصيم وعنيزة تحديداً، وتاجر اتسعت أعماله وتجارته حتى أصبح له مقر تجاري معروف في البصرة والزبير، ونشاط كبير في الهند والكويت، وكذلك شأن جدها المرحوم الشيخ منصور فقد كان ثرياً محسناً، وابنه هو امتداد له في التجارة وفعل الخير، وقد كانت لهما إسهامات مشكورة وتبرعات في تأسيس ورعاية عدد من المدارس الأهلية والأعمال الخيرية خلال القرن الهجري الماضي سجلتها بعض الكتب والوثائق، وما عند الله خير وأعظم، وذكر الشيخ الفقيه المؤرخ عبدالله البسام بعض سيرتهما في معرض حديثه عن أعلام أسرة أبا الخيل في موسوعته الشهيرة (علماء نجد خلال ثمانية قرون)، وبالمناسبة فالشيخ عبدالله أبا الخيل (والد أم طلال) هو خال للشيخ البسام. وأما والدة الفقيدة فهي من بيت عريق، بيت علم وقضاء وتجارة ووجاهة، وهي السيدة فاطمة بنت أحمد العبدالجليل، والعبدالجليل هؤلاء كانوا في حوطة سدير وارتحلوا للكويت، ومنهم الأحمدان، فأما الأول فهو جد الأسرة الشيخ الفقيه أحمد العبدالله العبدالجليل ثاني قضاة الكويت بعد ابن فيروز، وأما الثاني فهو والدها الشيخ أحمد العبدالجليل أحد كبار وجهاء وتجار الكويت، وكان متعلماً صاحب ثقافة واطلاع حتى أن الشيخ أحمد الجابر الصباح حاكم الكويت استعان به للترجمة من العربية إلى الإنجليزية والعكس في رحلته الشهيرة إلى إنجلترا قبل أكثر من قرن، وتلك الرحلة رافقه فيها الملك فيصل بن عبدالعزيز وكان في مقتبل شبابه بتوجيه من والده الملك عبدالعزيز رحمه الله ونوَّر قبره.
فأم طلال كما ترى نشأت في بيئة مباركة، ومجتمع متعلم ومتمدن، وفي ظل أسرتين كريمتين لهما باع طويل في الخير والنفع والتأثير. ولا ننسى كذلك أنها أخت لرجل دولة من طراز فريد، وقد كان له دور مبارك في تربيتها وبقية إخوانها وأخواتها بعد رحيل والدهم، ذلكم هو الأخ الرحيم الشفيق معالي الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله أباالخيل وزير العمل والشؤون الاجتماعية في عهدي الملكين سعود وفيصل، والسفير -بعد ذلك- في مصر.
وقبل أكثر من خمسين سنة تزوجت أم طلال برفيق دربها، وشقيق روحها، الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، وكان آنذاك شاباً مجداً ولامعاً، فاعلاً في برامج الإذاعة والتلفاز، ووجهاً مشرقاً ومألوفاً للسعوديين. وكانت هي شابة مثقفة ومتعلمة ومتأنقة تعيش في بيت عز ومجد، فكان التوافق بينهما على أكمل وجه، وسعدا بصحبة سعيدة وحياة دافئة جميلة عشرات السنين، وأنجبت منه (طلال) الشاب القارئ الخلوق الوادع الذي أجاب نداء ربه مبكراً، وكتب عنه والده (حديث الشرايين)، ورزقا كذلك بـ(رشا) والدة فيصل بن رائد الإبراهيم، قيادية فاضلة متميزة، رئيسة القسم النسائي في مجلس الشورى، و(شادن) والدة الأمير بدر بن وليد بن بدر، شخصية اجتماعية محبوبة كوالدها وكانت لصيقة به، وهي الآن تحمل لواء العناية بتراثه الفكري، ومن جهودها تأسيس موقع إلكتروني ضخم لوالدها حوى أكثر من خمسة آلاف مادة علمية، وبناء جامع له على طريق الرياض القصيم -يسر الله تمامه- بإشراف رائع من سمو الأمير الفاضل سلطان بن سلمان رئيس جمعية المساجد، وصديق والدها الوفي.
وبحكم معرفتي بأبي طلال، وصداقتي له سنوات طويلة، وتواصلنا العلمي والاجتماعي المستمر، فقد عرفت بعضاً من صفات وسمات زوجته الراحلة الفاضلة، وجانباً من سمو أخلاقها، وخدمتها لأهلها وقراباتها، وهضمها لحق نفسها، وحبها للإيثار والتضحية، وعشقها للكرم وإقراء الضيف وإطعام الطعام، ما يستحق أن يفرد في كتاب عنها، وكرمها وكرم زوجها من الأمور المشتهرة، حتى أصبح بيتهم المعمور المشهور الكائن في حي المحمدية شمال الرياض، قبلة للزوار من مختلف الناس، وتعقد فيه مجالس يومية ونوعية، فقد كانت أم طلال خير المعين لزوجها، وداعمة له على المروءة، والمعاني الجميلة، والمساعي الحميدة، والطباع العربية الأصيلة.
وأحسبها من خير الزوجات، ويصدق عليها قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره) رواه النسائي وصححه الألباني، بل إنها تعد كنزاً من أفخر الكنوز، قال عليه السلام: (ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته) أخرجه أبو داوود، وتصدق فيها كل صفات الحياء والمروءة والأدب: «تصل الرحم، وتكرم الضيف، وتكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق». رواه البخاري.
ومع ما تقدم، فإنها لم تقطع قريباً، ولم تعادي أحداً، ولم تتجهم بوجه قاصد يطلب رفداً، فكم أغاثت ملهوفاً، وفرجت كرباً، وأزالت هماً، وصنعت معروفاً، وبذلت إحساناً، لم تشغلها مباهج الحياة، ولا رغد العيش؛ بل إن هذه كلها جعلتها شاكرة صابرة وأحسبها أنها ممن إذا أعطى شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، ولو لم يكن منها إلا حسن صحبتها لمن أكرمها الله بصحبته وحسن معاشرتها لرجل من أكثر الرجال نبلاً وأحسنهم خلقاً لم تخالفه عشرات السنين فقوله عندها هو القول الفصل، وإذا أدلت برأي فمن باب النصيحة والمشورة، وكان أبوطلال شديد الاعتزاز برأيها، كثير الثناء على وفرة عقلها، ورجاحة رأيها، وطيب منبعها، ولطالما استفاد منها لاسيما في مشروعاته العلمية؛ فهي صاحبة رأي، وكثيراً ما تبدي له الملاحظات والمقترحات.
وبالجملة فقد كانت حياتهم حياة هادئة وادعة تظللها روح الوئام والتصافي والرضا وتقوم حياتهم الزوجية على الأركان الثلاثة الواردة في الآية 21 من سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فجزاها الله خيراً على ما قدمت، ولله ما أخذ وله ما أبقى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمى، وحسبنا قول الله تبارك وتعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}البقرة: 156، وإنا على فراقك يا أم طلال لمحزونون.
رفع الله درجاتها وأكرم مثواها، وجمعها بزوجها وحبيبها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ولعل ما أصابها من مرض وآلام يرفع مكانتها إلى مرتبة الشهداء، إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين، تغمدها الله بواسع رحمته وأسكنها فسيح جنانه ونستمطر شآبيب الرحمة على روحها الطاهرة.