د.شريف بن محمد الأتربي
اجتاح فيروس كورونا المسمى كوفيد19 العالم بأسره، وضرب بشدة كافة قطاعات الحياة، واضطرت كثير من الدول إلى تطبيق حظر التجوال خوفاً من انتشار المرض بسرعة تفوق إمكانيات الدول وتضر بصحة المواطنين، وكان قطاع التعليم واحداً من أكثر القطاعات تأثراً بذلك، حيث أشار تقرير للأمم المتحدة أن أكثر من مليار ونصف المليار طالب وطالبة في 190 دولة انقطعوا عن الحضور للمدارس، وسارعت كثير من الدول إلى تطبيق نظام التعليم عن بعد كواحد من الحلول الناجعة لتقليل أثر عدم انتظام الدراسة على أبنائها الطلبة.
وفي المملكة العربية السعودية؛ وخلال عام ونصف تقريباً، استمتع الطلبة والمعلمون برحلة تعليمية متميزة من خلال منصة مدرستي، لم يشعروا خلالها بفروق جمة بين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد، حيث سخرت الدولة كافة إمكاناتها لوزارة التعليم لإنجاح العملية التعليمية وتحقيق أكبر قدر من الأهداف المخطط لها ضمن الخطة الإستراتيجية للوزارة المبنية على رؤية المملكة 2030.
ومع نهاية العام الدراسي 1441 -1442 أعلن معالي وزير التعليم الدكتور حمد بن محمد آل الشيخ عن عودة الدراسة للمدارس في العام الدراسي الجديد 1442 -1443 ضمن ضوابط وشروط معينة تتماشى مع توجهات الدولة لتقليل أثر كوفيد19 على الحياة الاجتماعية في المملكة، مع الاستفادة أيضاً من تجربة التعليم عن بعد من خلال منصة مدرستي ودمجها في خطط الوزارة للتعليم في العام القادم.
وخلال الفترة الماضية قام عدد من التربويين والأكاديميين بعمل دراسات لمخرجات التعليم لدى الطلبة لقياس أثر كوفيد19 عليها وقدرة المنصات التعليمية على تقليل الفاقد التعليمي لدى الطلبة، وأغلب هذه الدراسات هي دراسات نظرية اعتمدت على التحليل والمقارنة بين نتائج الطلبة خلال الأعوام السابقة ونتائجهم خلال فترة تطبيق التعليم عن بعد.
وبادئ ذي بدء ينبغي الإشارة إلى أن المنهجية المقارنة؛ منهجية غير مطلقة، وإنما يوجد لها ضوابط وشروط المقارنة تقود الباحث لتحقيق أهداف البحث والوصول للنتائج وكتابة التوصيات. ومن أهم الشروط والضوابط التي تؤطر المنهجية المقارنة وتدعم صحة النتائج؛ ألا ترتكز على دراسة حادثة واحدة، وإنما تستند المقارنة إلى دراسة مختلف أوجه الشبه والاختلاف بين حادثتين أو أكثر. كما أن على الباحث أن يسلط الضوء على الحادثة موضوع الدراسة بشكل أدق وأوفى، وأن يجمع معلومات كافية وعميقة حول الموضوع. ولعل من الشروط الهامة والعميقة لمنهجية المقارنة أن يكون هناك أوجه شبه وأوجه اختلاف بين المُقارن، فلا يجوز مقارنة ما لا يقارن. كما يجب على الباحث تجنب المقارنات السطحية والتعرض من الجوانب الأكثر عمقاً لفحص وكشف طبيعة الواقع المدروس وعقد المقارنات الجادة والعميقة. وأخيراً يجب أن تكون المقارنة مقيدة بعاملي الزمان والمكان فلا بد أن تقع الحادثة الاجتماعية (المقاسة) في زمان ومكان نستطيع مقارنتها بحادثة مشابهة وقعت في زمان ومكان آخرين.
ويمكن تعريف الفاقد لغوياً بأنه مشتق من: افتقدَ يفتقد، افتقادًا، فهو مُفتقِد، والمفعول مُفتقَد، وافتقد الشَّيءَ، فقده، أضاعه، خسِره.
والفاقد التعليمي أو الفاقد التربوي، أو الهدر المدرسي (Educational Wastage) هو أحد أهم المشكلات التي تواجه قطاع التعليم في عدد كبير من الدول؛ حيث يُشير إلى مقدار الوقت والجهد والأموال التي يتم إنفاقها على العملية التعليمية بدون التمكن من الوصول إلى النتائج المنشودة، سواء عند تسرب الطلبة من التعليم، أو عدم التمكن من مواصلة العملية التعليمية لأي سبب كان، مما يؤدي إلى إهدار جزء كبير من الموارد المادية والموارد البشرية بدون فائدة. ويحتسب الطالب المتسرب من التعليم كفاقد عندما تنقضي جميع السنوات التي يكون خلالها متاح له الدراسة، حيث إن الفاقد يتمثل في الشخص المنقطع عن التعليم بشكل كامل ورسمي. وهو يمثل أيضا الفرق بين ما يُفترض اكتسابه معرفيا ومهاريا، وما اكتسبه الطلبة فعليا خلال فترة زمنية محددة.
وفي الحالات الطارئة، تلجأ كثير من الدول إلى تقليص حجم المقررات، وتقليل ساعات الدراسة، والتخلي عن بعض المقررات- مثلما حدث أثناء جائحة كوفيد19-؛ وليس معنى ذلك أن تفقد العملية التعليمية أهدافها ولا تحقق غايتها؛ فخطط التعليم التي تم وضعها لتناسب العملية التعليمية في الظروف الطبيعية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تطبق خلال الحوادث أو الحالات الطارئة أو الكوارث البشرية، ويستعاض عنها بخطط بديلة تحقق أهداف التعليم من خلال التركيز على المعرفة المباشرة والمهارات المطلوبة، وأيضا الاستفادة من الأدوات المتاحة في أنظمة التعليم عن بعد.
وعند تقييم تجربة المملكة العربية السعودية في التعليم عن بعد، ينبغي الإشارة إلى التقدير العالمي لها، حيث أعلن المركز الوطني للتعليم الإلكتروني في نهاية العام الماضي 2020 عن انتهاء ست جهات عالمية من إجراء دراستين شاملتين عن تجربة التعليم العام والعالي بالمملكة خلال جائحة كورونا، وذلك بهدف توثيق ودراسة واقع التجربة، والخروج بمبادرات للتطوير والارتقاء بممارسات التعليم الإلكتروني في المملكة وَفْق أحدث الممارسات والمعايير العالمية في هذا المجال.
وأجرت هذه الجهات الدراستين بمشاركة أكثر من 342 ألفًا من الطلبة، وأعضاء هيئة التدريس، والمعلمين، وأولياء الأمور، وقادة المدارس، حيث بلغ عدد المشاركين في دراسة التعليم العام 318 ألف مشارك، بينما بلغ عدد المشاركين في دراسة التعليم العالي 24 ألف مشارك.
وأعدت الدراسة الأولى منظمة اتحاد التعليم الإلكتروني OLC، وبمشاركة الجمعية الدولية لتقنيات التعليم ISTE، ومنظمة «الكواليتي ماترز «QM، ومنظمة «اليونسكو UNESCO»، والمركز الوطني لأبحاث التعلّم عن بعد والتقنيات المتقدمة في الولايات المتحدة الأمريكية DETA، ومعهد تقنية المعلومات في التعليم التابع لليونسكو IITE، بينما قامت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD بالتعاون مع جامعة هارفارد في التعليم العام بإعداد الدراسة الثانية.
وجرى خلال هاتين الدراستين مقارنات مرجعية مع أكثر من 193 دولة حول العالم، حيث أظهرت الدراستان تميز المملكة في تنوع الخيارات المتاحة للتعليم، ومن ذلك على سبيل المثال: المحتوى الإلكتروني والقنوات الفضائية المتاحة للتعليم الإلكتروني في التعليم العام، التي وفّرتها المملكة، وكانت نسبة الدول التي نجحت في توفيرها على المستوى الوطني 38 % فقط.
واشتملت الدراسة التي أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، وجامعة هارفارد؛ على مقارنة حول استجابة المملكة المتعلقة بالتعليم خلال جائحة كورونا مع 37 دولة من الدول الأعضاء، وأظهرت النتائج تقدم المملكة في 13 مؤشراً من أصل 16 مؤشراً على متوسط هذه الدول، كما كشفت النتائج حصول المعلمين على دعم كبير للتغلب على عقبات تفعيل التعليم الإلكتروني، كما أشارت دراسة التعليم العام إلى وجود إستراتيجية واضحة لإعادة فتح المدارس بالمملكة، وقياس أي فاقد ومعالجته لدى وزارة التعليم.
كما أشادت منظمة اتحاد التعليم الإلكتروني OLC بمجهودات وزارة التعليم في التعامل مع الأزمة من حيث تنوع الخيارات المتاحة، وسرعة الاستجابة للمتغيرات لضمان نجاح التحول إلى التعليم الإلكتروني بشكل فعّال.
وأشاد أيضاً مجموعة من خبراء التعليم في منظمات دولية وعالمية بتجربة المملكة الرائدة في التعليم الإلكتروني والتعليم عن بُعد خلال جائحة كورونا، مؤكدين أن المملكة قدمت نموذجاً عالمياً من خلال منصة مدرستي، بما تحتويه من إمكانات وأدوات تفاعلية، إلى جانب استثمار ساعات الدراسة الفعلية في الفصول الافتراضية.
وأكد رئيس وحدة التقنية والذكاء الاصطناعي في التعليم بمنظمة اليونسكو الدكتور «فنغتشون مياو» أن المملكة من بين الدول القليلة التي طورت ونفذت معايير لضمان جودة التعليم الإلكتروني؛ مما نتج عنه جودة في نواتج التعلم.
وأوضح أن المملكة أجرت تقييمًا واسع النطاق لأثر التعليم عن بعد، ووفقًا لهذا التقييم لم تُسَجَّل أي خسارة كبيرة في ساعات التعلّم الفعلية منذ تقديم الفصول عبر التعليم الإلكتروني والتعليم عن بُعد لجميع الصفوف وجميع المواد، واستمرت ساعات الدراسة العادية تقريبًا أثناء إغلاق المدارس باستخدام تحليل البيانات التي تتعقب وتسجل أداء التعلم الإلكتروني للطلاب، لافتاً النظر إلى أهمية تخطيط وتنفيذ برامج التعليم عن بُعد بهدف ضمان الوصول الشامل والعادل لفرص التعليم بين الجنسين في جميع الدول.
وأثنى على نجاح تجربة التعليم عن بُعد في المملكة التي أظهرت قدرتها القيادية ممثلة بوزارة التعليم في التخطيط والتنفيذ الذي شهدته منصات التعليم عن بُعد، من خلال منصة مدرستي، مضيفاً أن الوصول الشامل والعادل في فرص التعلم عن بُعد في المملكة مكّن 98 % من الطلاب من الوصول إلى منصة مدرستي، بينما ضمن 2 % منهم استمرارية التعلّم من خلال الوصول إلى قنوات عين التعليمية الفضائية، وقنوات عين التعليمية على اليوتيوب.
هذا إلى جانب جهات وشخصيات دولية وعالمية أخرى أشادت، ولا زالت تشيد بجهود المملكة في التعليم خلال جائحة كورنا، حيث أكدت رئيسة منظمة اتحاد التعليم الإلكتروني (OLC) الدكتورة «جينيفر مايثس» أن تأثير جائحة كورونا العالمية على قطاع التعليم لا يمكن التقليل من شأنها، مضيفة أن اتحاد التعليم الإلكتروني عمل مع المركز الوطني للتعليم الإلكتروني في المملكة لدعم إستراتيجية وزارة التعليم للتخطيط للمستقبل وفق رؤية 2030.
وأشارت إلى أن وزارة التعليم في المملكة درست بعناية تأثير حالة التعليم الإلكتروني للتعليم العالي والتعليم العام خلال الجائحة، واستثمرت البرامج الدراسية الرقمية والحلول التقنية التي تساعد على التعليم الإلكتروني، بما في ذلك نظام إدارة التعلم الفريد والمميز في منصة مدرستي، وتطبيق المعايير المهنية والتربوية المتعلقة بكل جوانب التعليم الإلكتروني.
ومع هذه الإشادات العالمية والدولية لجهود المملكة -ممثلة في وزارة التعليم-، في دعم استمرارية التعليم - خاصة التعليم العام- من خلال منصة مدرستي؛ لابد من الإشارة إلى حدوث فاقد تعليمي يحتاج إلى تحديد أكثر دقة، بحيث يكون مبنياً على قياس المخرجات التعليمية وتقدير الفاقد فيها من خلال قياس الأثر التعليمي كاملاً سواء في استخدام المعلومات وتطبيق المهارات لدى الطلبة في حياتهم الاجتماعية -هو الهدف الأساسي للتعليم- ومن خلال نتائج الاختبارات النهائية، ونتائج الاختبارات العالمية، بحيث يفرز تحليل النتائج ومقارنتها مع النتائج المتوقعة إلى تحديد نسبة الفاقد بشكل واضح ومحدد وليس أرقاماً مرسلة بشرط تطابق الظروف والعوامل التي تم فيها قياس النتائج.
ولعلي أختم مقالي هذا بالإشارة إلى الخبر المنشور في موقع شركة ميكروسوفت العربية بشأن تنفيذ وزارة التعليم ممثلة في منصة مدرستي لمسابقة (مدرستي تبرمج) حيث أعلنت الشركة أن 4.7 مليون مشارك في المرحلة الأولى من المسابقة على منصة «Minecraft» التعليمية، وهذا العدد الهائل يأتي تتويجاً لارتباط المجتمع التعليمي بمنصته التعليمية المتميزة (منصة مدرستي) والتي استضافت هذه المسابقة، وهي تجسيد لرؤية سمو سيدي ولي العهد في التعليم: معرفة أقل، مهارات أكثر.