تدني الجودة وكذلك ضعف ملاءمة المخرجات لمتطلبات سوق العمل مشكلتان متداخلتان في التعليم العالي في معظم دول العالم. هذه المحاور كانت وما زالت موضع اهتمام الحكومات ووزارات التعليم لأنها تؤدي إلى نمو البطالة وإلى إهدار الأموال على تعليم غير مُجد رغم الاهتمام لمحاولة حلها إلا أن الحلول الجذرية ما زالت غير موجودة، والبعض يعزو تدني جودة مخرجات التعليم إلى تدني جودة مدخلاته، على أن شح الفرص الوظيفية الملائمة لمن لا ينخرط في الدراسة الجامعية وسهولة الالتحاق بالتعليم الجامعي وتلبية الاحتياجات المعنوية شجعت أفراد المجتمع على الانخراط في التعليم العالي للحصول على الشهادات على حساب التحصيل العلمي، وسهولة الالتحاق بالتعليم العالي مرتبطة بكون مؤسسات التعليم العالي في مجملها مؤسسات ربحية وبالتالي فإن الكم يعني زيادة في الدخل، حتى الجامعات الحكومية أصبحت تهتم بالكم لأن ضغط المجتمع والبدلات والدعم الحكومي وكذلك متطلبات التصنيف العالمي في كثير من دول العالم مرتبطة بالكم، وتدني جودة مخرجات التعليم يعود أيضاً إلى طريقة اجتياز المقررات، وتكمن المشكلة في كون المحاضر هو الممتحن مما يجعل سقف متطلبات اجتياز المقررات مرتبطاً بالمحاضر وليس بمعايير تضمن الحد الأدنى من المعرفة.
متطلبات سوق العمل تتغيّر باستمرار وهذا يتطلب استحداث تخصصات جديدة، والتخصصات المستحدثة في مختلف الجامعات لا تخلو من كونها تغيّر في الشكل والمسميات ولكن لا تختلف في جوهرها عن التخصصات التقليدية أو قد تكون خليطاً من تخصصين مما يجعل هذا التخصص في كثير من الأحيان سطحياً وغير محدد الأهداف، واستحداث تخصصات جديدة يعني التغيير الكامل لما هو موجود، وهنا تكمن الصعوبة لأنه لا يمكن أن تخلق ثقافة جديدة من أفراد يعملون في تخصصات تقليدية، وحتى لو كان التخصص المستحدث يتناسب مع متطلبات سوق العمل وقت استحداثه فإنه ما يلبث أن يصبح تخصصاً تقليدياً يفتقد إلى متطلبات سوق العمل في المستقبل، إذاً ديناميكية التسارع في متطلبات سوق العمل تتطلب ديناميكية مقابلة في التعليم العالي وتصبح التكلفة المالية باهظة وغير مبررة، وقد استقر الأمر إلى اللجوء إلى الاعتماد الأكاديمي الذي تمنحه بعض الجهات بمعايير محددة، ولكن البعض يرى أن متطلبات الاعتماد الأكاديمي تحقق الجودة نظرياً من خلال تكديس أوراق ووثائق لا تطابق الواقع وأصبح هدف المؤسسة الأكاديمية الحصول على الاعتماد وليس الوصول إلى الجودة وهدف الجهة المانحة الربح.
التعليم العالي بفروعه المتعدّدة مطالب بالمساهمة الفعَّالة في تكوين وإعداد الكفاءات العلمية التي تلعب دوراً بارزاً في تلبية احتياجات سوق العمل، ولكن كيف يمكن ربط التعليم العالي بمتطلبات سوق العمل بنفس الديناميكية وبأقل تكلفة؟ وما هي الآليات التي يمكن استخدامها لتحقيق ضمان جودة مخرجات التعليم العالي للنهوض بالمجتمع وتلبية احتياجاته؟
استمرار الطالب في الدراسة ما بعد التعليم العام ينبغي أن يكون لهدف اكتساب المهارات لمواجهة الأزمة التي يتطلبها سوق العمل في تخصصات دقيقة وليس اكتساب معارف مختلفة لا تلبي متطلبات الوظائف التي يجب أن يؤديها الطالب بعد التخرّج، الطالب يتخرّج ليصبح معلماً في المدرسة أو مهندساً في المصنع أو عالماً في المختبر أو طبيباً أو فنياً في المستشفى أو قاضياً في المحكمة أو محاسباً في البنك أو إعلامياً في صحيفة أو تلفزيون أو إذاعة أو فنياً في الورشة، هذه المسميات تندرج تحت مظلة تُسمى القطاعات.
إذاً الخطوة الأولى هي تبني مفهوم القطاعات مثل قطاع المال والبنوك وقطاع الزراعة والصناعات الغذائية وقطاع الصناعات البتروكيمائية والغاز وقطاع الحديد والصلب وقطاع التجزئة وقطاع الصناعات الحربية وقطاع الاتصالات وتقنية المعلومات وقطاع التبريد والتكييف وقطاع تحلية ومعالجة المياه وقطاع النقل وقطاع الإعلام والنشر وقطاع السياحة والفندقة وقطاع الشييد والبناء وقطاع الكهرباء وقطاع الطب والصحة وغيرها، الخطوة الثانية إدراج جميع المؤسسات الحكومية والخاصة والمصانع في هذه القطاعات وفقاً للنشاط الرئيسي للمصنع والوزارة والمؤسسة. الخطوة الثالثة يتولى كل قطاع إدارة التخصصات المتعلّقة به داخل سقف الجامعة الواحدة مع الإبقاء على أسماء الجامعات كما هي فمثلاً يتولى قطاع الإعلام والنشر تخصصات مثل تخصص الإعلام في كليات العلوم الإدارية ويتولى قطاع المال والبنوك تخصصات مثل تخصص المحاسبة ويتولى قطاع التشييد والبناء تخصصات مثل تخصص العمارة ويتولى قطاع الكهرباء إدارة تخصصات مثل تخصص الهندسة الميكانيكية والكهربائية. وقطاع النقل يتولى تخصص الهندسة المدنية وكليات الطب والصيدلة والعلوم الطبية يتولى إدارتها قطاع الطب والصحة وتتولى كليات التربية قطاع التعليم (أو وزارة التعليم) وهكذا.
وإدارة القطاع للتخصص تعني تولي القطاع تصميم الخطط والمناهج وتدريسها ووضع الشروط المطلوبة للانخراط في التخصص وتحديد أعداد الطلاب المقترح قبولهم في كل التخصصات التابعة لهذا القطاع في الجامعات المختلفة وفقاً لتوفر الحاجة والمصانع في المنطقة التي توجد فيها الجامعة واتخاذ قرارات بالتوسع في تخصصات معينة، يقتصر دور إدارة الجامعة على التنسيق بين التخصصات المختلفة والدعم الإداري واللوجستي المحدود.
طريقة إدارة القطاعات للتعليم العالي تتميز عن الطريقة التقليدية بعدة مميزات، أولاً هذه الطريقة تضمن ارتباط الطالب بصاحب العمل منذ دخوله للجامعة وبالتالي فإن الخطط وطرق التدريس وخبرة أعضاء هيئة التدريس تجعل اندماج الطلاب أثناء الدراسة في سوق العمل أكبر وتكون العملية التدريسية أقرب إلى المهام التي يتطلبها سوق العمل عندما يتخرَّج بينما يكون أعضاء هيئة التدريس في الطريقة التقليدية في ظل وجود فجوة بين الجامعات وسوق العمل في عزلة أكاديمية، عضو هيئة التدريس في الطريقة المقترحة جزء من القطاع وبالتالي لديه خبرة عمليه بالإضافة إلى خبرته الأكاديمية الدافعية لتخريج طلاب بكفاءة عالية لدى الجامعات في الطريقة التقليدية تكون أقل لأن الجامعة ينتهي دورها عند تخرّج الطالب بينما في طريقة إدارة القطاع للتخصصات التابعة له سيجعل القطاع حريصاً على استقبال الطلاب المتميزين وحريصاً على تدريسهم بكفاءة عالية لأن الطالب سوف يصبح جزءاً من هذا القطاع من لحظة التحاقه بالتعليم العالي وموظفاً لدى القطاع بعد تخرّجه في إطار مبدأ التدريس المنتهي بالتوظيف، وتكامل العملية التدريسية مع سوق العمل في إدارة القطاعات للتعليم العالي سوف يجعل البحث العلمي وسيلة لحل المشاكل الفنية ولزيادة الكفاءة الإنتاجية في المصانع والمؤسسات التابعة للقطاع بشكل أكثر فعالية. أيضاً من مميزات تولي إدارة هذه القطاعات للتعليم العالي واقتصار وزارة التعليم على التعليم العام تخفيف الأعباء المالية الباهظة على الدولة لأن القطاع سوف يتولى الإنفاق على التعليم العالي للتخصصات التابعة له.
ومن المعلوم الوزارات المرتبطة بالقطاع العسكري لديها كليات عسكرية لاستقبال الطلاب بعد التعليم العام بحيث تتولى تدريسهم وتدريبهم في كليات تابعة لها ليصبحوا عند التخرّج جزءاً من هذا القطاع. إذاً هي في مضمونها تطبّق مبدأ إدارة القطاعات للتعليم العالي في إطار مبدأ التدريس المنتهي بالتوظيف. هذه التجربة الناجحة للقطاع العسكري ينبغي التوسع بها لتشمل القطاعات الحيوية الأخرى.
** **
د. عبدالعزيز محمد الكليبي - جامعة المجمعة