د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** كان مكلفًا بقراءة نشرة «الثانية والنصف» ظهرًا، وفي أيامنا كانت هي نشرةَ الإذاعة الرئيسية، وقبيل انتهائها أبلغه مهندس البث المباشر في «الأستوديو» ألا يختمها -كالعادة - بقراءة «الموجز» فظهور «الشارة»، بل طلب منه أن يستعرض خارطة البرامج المتبقية ، وعلى أقلَّ من مهله؛ فالبرنامج الإخباري «المسجل» الذي يلي النشرة مفقود ويجري البحث عنه، ومن المفترض ألَّا يفصلَه عن النشرة فاصل.
** نفّذ ذلك، وبدأ في استعراض البرامج بعينٍ على زميله الفنيّ من خلال النافذة الزجاجية ، والأخرى على الجدول التراتبيّ الذي يقرأُ منه باسترخاءٍ وبطءٍ خشية أن يبلغ نهايةَ البث والبرنامج لم يبدُ مصيرُه ؛ فكان يمدُّ كلامه فيقول: وفي .. «ألثالثة» .. وفي ... «ألثالثة والنصف» .. وفي .. «ألرابعة» (بهمز أل التعريف حتى بدت للسامع همزة قطع وحقها الوصل)، وما إن لاح الشريطُ العتيد وظهر البرنامج على الهواء حتى ورده اتصال عبر «التحكم المركزي» من وكيل الوزارة للإذاعة.
** توقع أن يسأله عن سبب الفصل بين النشرة والبرنامج فلم يفعل ، وبعد التحية لاحظ عليه قطع الهمزة وشرح له كيفية تمييز الوصل بإدخال الفاء أو الواو ، فأنصت صاحبكم وشكره ولم يُبيّنْ له أن الأمر كان متعمدًا تطويلًا للوقت، وحمد اللهَ أن انتهى الأمر بهذا كي لا يُعرف – عن طريقه - الخللُ الإداري ، ولعله طلب إفادة أقسام الهندسة والتنسيق والمكتبة بحكم مسؤولياتهم واختصّه بالدرس اللغوي.
** كان ذلك هو الاتصال الهاتفي المباشر الأول مع أستاذنا الدكتور علي بن عبدالعزيز الخضيري، ولعله الأخيرُ خلال تعاونه مع الإذاعة، ولفت نظرَه أمران: لطفُه من جانب وعنايتُه باللغة من جانب، ولا يدري ما الذي سيصنعه لو ظلَّ مسؤولًا واستمع إلى عَثَرات إذاعيي اليوم، ويذكر – في الفترة نفسها – أن كان أحدُ المذيعين البارزين غيرَ معنيٍ بهمزات الوصل والقطع، كما الأخطاء كثيرة فيهما من سواه، وربما خشي وكيل الوزارة على الجدد أن يستنسخَوا نهجَ القدماء .
** لا يكتمل الحديث عن «الدكتور علي» دون قرنه بالحديث عن شقيقه «الأستاذ منصور»؛ فالشبه بينهما ممتدٌ من علاقة الدم إلى تماثل المسيرة الإعلامية؛ إذ كلاهما إذاعيٌ بارز، وفي تخصصٍ واحد، وذوا ثقافة وحضور ، وتمكنٍ من الفصحى، ولهما صداقاتٌ مشتركة، مع أناقةٍ في المظهر ونقاءٍ في المخبر، وانتماءٍ حميم للوطن، وذاكرة قلبٍ للبكيرية، وإن افترقا في شيءٍ فهو في العمل الرسميِّ؛ إذ تنوعت خبرات الدكتور علي بين ديوان الموظفين - كما كان يسمى - والإعلام وتعليم البنات والشورى، وأخلص الأستاذ منصور لرعاية الشباب، وقدَّم فيها ما تحتفظ به الذاكرة الثقافية؛ فله موقعٌ وإيقاعٌ مشهودان، وقد تمنينا أن يكتب سيرته، ولعلَّ خطوة شقيقه (الواقف في الشمس) - كما وسم الدكتور علي سيرة حياته وذكرياته - تدفعه لمضاهاتها.
** قدّمت رعايةُ الشباب في زمنها الثريّ: الأندية الأدبية، وجائزة الدولة التقديرية، ومركز الملك فهد الثقافي، والوفود الشبابية التبادلية مع الدول الشقيقة والصديقة، والبرامج الموجهة للجيل الناشئ، ومعلقي الكُرة المثقفين، واعتنت بحفلات الأندية المنبرية، ولا ينسى صاحبكم مشاركته في برنامج الراحل علي آل علي -غفر الله له- حين سجل معه، وهو فتى،بعض إسهامه في حفلات ناديي العربي والنجمة بعنيزة حين زارهما، ولأبي عبدالعزيز علاقات وثيقة برؤساء الرعاية السابقين، وبالإذاعيين والإعلاميين والإداريين والرياضيين، وآن لشاهد هذه المرحلة أن يوثقَ دوره فيها وذكرياته عنها.
** كان الطفل «علي» يقف في الشمس حتى تُحقق له والدتُه –رحمها الله - مبتغاه، ولعل شمسها مبتدأَ شموسٍ حياتيةٍ اختبرت إرادته وتحمله، كما أضاءت مبادراته، وأبرزها تأسيس إذاعة القرآن الكريم وتكوين أجيال من المهنيين المتميزين.
** لم تكن شموسَ شخص بل شخصين، ولم ترعَ نصًّا بل نصين؛ فقد شاركه وهجَها شقيقَه «منصور» الذي يصغره قليلًا ، وهو الأقربُ إلى نفسه مذ كان عليلًا نحيلًا في طفولته حتى اختارتهما هبةُ الله فصارا عَلَمين مضيئين وضيئين.
** الشمسُ ظلُّ المبدعين.