كتبتُ في عدد الجزيرة الثقافية (17715) عن المصطلح النقدي بين التنظير والوعي، وكان الحديث عن مشكلة تتابع التنظير، والابتعاد عن التعامل مع المصطلح النقدي بوعي؛ لكي يحقق الفائدة الكبرى للتجديد في الدرس النقدي.
وفي هذا المقال سأطرح بعض الإجراءات التي أظن أنها ستسهم في تجاوز عقبة التنظير إلى التعامل مع المصطلح النقدي بوعي، مع الإفادة من المنجز النظري، كونه المِهاد للتحليل والدرس، فإغفال الجانب النظري لا يمكن أن يُسهم في الوصول إلى نتائج جيّدة، وواضحة المعالم، بل إن إغفاله يولّد نتائج مشوّهة، لا تشبه الإبداع، والعمل الفني الجميل.
وهذا التشوّه ينسحب على الإغراق في التنظير دون التعامل مع النص الأدبي بوعي المنهج الذي تشكّل في رحِم الحياة البشريّة، والفلسفات الناتجة عن التجريب، والنظر إلى الإنسان كونه أبرز عناصر التحوّل في الحياة، ومن ثمّ كل ما ينتجه هو خاضع إلى هذه النظرة الواسعة، والمثاليّة للإنسان.
فيمكن أن يكون الوعي بالمصطلح من خلال الابتعاد عن فكرة التجنيس الأدبي حال اختيار المنهج؛ إذ هناك مناهج لا تظهر في الدراسات عند الباحثين إلا في الشعر، والعكس من ذلك تمامًا، بعض المناهج لا تظهر عند الباحثين إلا في النثر، وهذا التقوقع يجعل التعامل مع المنهج خاضعًا إلى إجراءات بناء الإبداع، فمثلاً: سيخضع المنهج إلى أدوات تحليل الموسيقا في الشعر، ويسير الباحث في البحث عن كل الإجراءات التي يتعامل بها المنهج مع الأوزان والقوافي، ويُقاس على ذلك ما يكون في النثر مثلاً.
ولكن لو تعامل الباحث مع المنهج بوصفه معطًا من معطيات التحليل، وليس حُكمًا على النص لكان انفتاحه على تجارب المنهج في الأجناس الأخرى تجديدًا في الدرس النقدي، فلو نظر الباحث مثلاً إلى شكل الحضور والغياب في الرواية، ونظر إلى تعامل المنهج التفكيكي في هذا، وأوجد التقاطعات التي تتصل بالحضور والغياب في القصيدة لخرجت نتائج جديدة، ونظرة توافق أسس المنهج في كونه تقويضًا للبنية التي ينطلق منها كل شيء في نظر أصحاب المنهج.
وهذا يجعل النظرة إلى المنهج النقدي تتسع ليُنظر من خلاله إلى الحياة كلها، فيدخل المنهج في تفسير الظواهر الاجتماعية، والثقافية التي تمرّ بها المجتمعات والشعوب، ومن هنا تتوسّع إجراءات التعامل مع المنهج النقدي وتجعل الباحث يتصل بحياته الواقعيّة والمعاصرة التي لا يمكن أن ينفصل عنها، فتصبح نظرته للنص الأدبي الذي يتعامل معه، موافقة لما يشعر به في حياته، وما يتصل به من المشاعر، والفلسفات في التعامل مع الحياة؛ لأن الإبداع الأدبي في أبسط أشكاله نتيجة لما يعاصره المبدع، سواء في حياته الظاهرة، أو في تفكيره الباطن.
وقد تُثمر هذه النظرة في سلامة التأويل عند الباحث؛ لأنه بذلك يندمج مع النظام العام للحياة، والنظام من أكبر أُسس الفهم كما يؤكِّده «سوسير» وهذا النِظام يتطوَّر ويتغيَّر بتطوّر نظرة الإنسان نحو الحياة، وفي التعامل معها؛ ولا يكون ذلك إلا ببناء علاقة بين المنهج النقدي، والمجتمع المعاصر، والإفادة من تداولية الحياة، واللغة.
ومن ثَمَّ فهذا الانفتاح سيجعل المصطلح وعاءً كبيرًا يستوعب علومًا متعدِّدة، وربما متباينة، ويجمع شتات أفكار كثيرة لا يمكن أن تظهر إذا اعتمدت فكرة التنظير الجزئي لما يخدم الفكرة الصغيرة للبحث، فيجمع المصطلح أفكارًا في الهندسة، وربما في الجيولوجيا تخدم النص الأدبي في تأويله، وإعادة قراءته، في منظومة واسعة يجمعها المصطلح النقدي، ويسير بها نحو الحياة المعاصرة، والمستقبلية؛ لإن الإبداع -وإن كان وليد اللحظة- هو في إحدى زواياه تعبير عن المستقبل، وانتظار للقادم.
وسيقودنا هذا الوعي بالمصطلح النقدي إلى العودة إلى طبيعة الفلسفة التي نتج فيها، والنظرة التي انطلق منها نحو النص، ولا يكون ذلك عائقًا في فهم الحياة الكبرى، من الزاوية التي انطلق منها المنهج، فحين تقوّض التفكيكية فكرة البنية هي لا تسعى فقط إلى إحداث نظام في طريقة التعامل مع النصوص الإبداعيّة، بل تتجه إلى إبراز جانب من الحياة غفلت عنه المناهج الأخرى؛ وبذلك تعدَّدت سُبل التحليل الإبداعي من خلال هذه المناهج، وضاقت في أوجه الباحثين أوجه التحليل، والتأويل لضيق أفق المنهج مهما بلغ من القوَّة، والتعدّدية؛ لأنه جزء من النظرة وليس كل النظرة.
** **
- د. سلطان بن محمد الخرعان