- في السنة الدراسية الأخيرة لي عام 1402 هـ بقسم علم النفس بكلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض، أخذنا دكتور مادة علم النفس التطبيقي إلى السجن بالرياض، المكان الذي يقضي فيه الخارجون عن القانون العقوبة والتي تتفاوت المدة من نزيل إلى آخر، وكنا كمجموعة من الطلاب ننتظر يوم التخرج نهاية العام، حيث لابد أن يكتب كل واحد منا تقريراً خاصاً عن حالة سجين، كدراسة ميدانية تدخل ضمن مشروع التخرج، دخلنا السجن مع الدكتور المشرف الساعة التاسعة صباحاً ذات يوم، فوجدنا ورشة عمل مكتظة بالسجناء الذين لهم محكوميات زمنية مختلفة وجميعهم موزعون على المهن حسب رغباتهم وقدراتهم وإمكاناتهم، فمنهم النجار وآخرون في السباكة وبعضهم كهربائي، وغيرهم يعمل في الصناعات اليدوية والمنسوجات، لكن ما استوقفني ذلك السجين الفنان وهو يرسم بريشته على ألواح خشبية متعددة المقاسات، طلبت من الدكتور المشرف والضابط المرافق أن تكون دراستي لحالة هذا الفنان الرسام، فلم أجد صعوبة في الموافقة بل أن الفنان الرسام أرسل ابتسامة الرضا لي مرحباً بما أريده منه، أخذت قلمي لكي أدون المعلومات المطلوبة على استمارة دراسة الحالة، بعد تدوينها خرجت عن أسئلة الاستمارة وبدأت أوجه للسجين أسئلة من اختراعاتي، ولا أدري وقتها هل كانت ذات قيمة موضوعية أم ساذجة ! ولأني مرتبط بالمسرح كممثل بالمسرح الجامعي، وأكتب عن المسرح الاجتماعي في الصحافة، سألت الرسام:
- بصفتك فنان وربما فيه غيرك فنانين، ألا تقدمون مسرحاً ؟
- مسرح ؟! وين ؟
- هنا بالسجن ؟
- ليه ؟
- لكي تعبرون عن قدراتكم الفنية المسرحية ومن باب الترفيه للمساجين كجمهور لكم ؟
- (تفاجأت بسؤاله) طيب تعتقد المسرح خارج السجن وصل إلى مستوى مقنع للجمهور، إلى درجة الواحد يضع في مفكرته اليومية مشاهدة عرض مسرحي في المساء ؟!
- (جوابي) بصراحة ما بعد وصلنا بالمسرح ولا المسرح أوصلنا إلى هذا المستوى !!
- أجل إذا وصل المسرح وجمهوره إلى مستوى القناعة خارج القضبان، يمكن يفكر الذي داخل القضبان بالكلام الذي تقوله !
- لملمت أوراقي وشكرته وسلمت تقريري اليوم الثاني للدكتور، الذي أبدى إعجابه واستياءه في نفس الوقت من مضمون أوراقي، وكاد أن يعطيني درجة (ضعيف) بسبب المسرح، لكني وعدته بإعادة صياغة التقرير مع حذف المسرح، وكان التقدير النهائي للتقرير الخالي من المسرح (ممتاز) !!
- القصة بكامل تفاصيلها رويتها لصديقي ولرفيق الدرب الدراسي، وزميلي في الغرفة رقم ( 7 ) بالوحدة السكنية ( ج ) بالسكن الجامعي (راشد الشمراني) الذي دائماً ما يؤكد أنه سيترك المسرح والفن بعد الدراسة الجامعية، بل إنه تنبأ بمواصلتي في الدراما مسرحاً وتلفزيوناً وإذاعة قائلاً: «يا مشعل أنا متأكد من نجاحك كممثل لو استمريت بعد الجامعة، أنا بعد السنوات الأربع لا للفن والتمثيل»، وللحقيقة أن الذي صار هو العكس، راشد الآن نجم من نجوم الدراما السعودية، وبقيت أنا أكتب لكم أحبتي القراء.
** **
- مشعل الرَشيد