أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: شيخنا (عثمان الصالح) رحمه الله تعالى، وقد متَّع الله بعمره، كان من المعمِّرين، عايشته صداقة وتتلمذاً منذ كان مديراً للأنجال (معهد العاصمة) في آخر أيامه إلى أن لقي ربه تعالى؛ فرأيت منه انبساطاً في الثناء؛ ليستأنف الشادي، ويشجعه.. وقد حملني قرناء السوء بتهكماتهم إلى تناولي إياه في جريدة الرياض بكليمة سخيفة، وكنت يومها هجَّاء سليط اللسان، عدوت فيها الطور، وتجاوزت الأدب، وجعلت حسنات الشيخ سيئات!!.. ثم بعد مدة انقبض خاطري، وقنَّعني الحياء، وتحاشيت مواجهته حتى رمتني به المصادفات؛ فرأيت أن شيئاً لم يكن، وقد لفني في حضن جناحه، وقال لي: (يا أبا عبدالرحمن: لا أقول فيك إلا حقاً.. أنت رجلٌ موسوعيٌّ، وقد آتاك الله بصيرة في اللغة، ونريد منك بحوثاً جادة؛ لينفع الله بك، ولا تشغلك هذه المقالات الإنشائية)، كأنه يريد أن أجعلها على هامش حياتي، وأوصاني بالرفق، وأنَّ الإنسان إذا طال به الزمان، ومهما بلغ من العلم سيرى أنه لا يزال في بداية الطريق!!.. وقال قولاً كثيراً لا أستحضره الآن فيه الإطراء والتشجيع والنقدات الخفيفة النافذة التي لا يحس بها إلا من دقَّق؛ فألجمني الحياء عن التدفق في الكلام، وكدت أذوب خجلاً كلما وقعت عينه على عيني.. ومع الأيام، ومع إحسانه وطيب معشره نسيت أنني أخطأت في حقه - قدس الله روحه ونوَّر ضريحه- ثم اكتشفتُ وهو في المقام الأعلى جاها، ومحبة من الناس والدولة، واستغناء عن الآخرين أنَّ ثناءه على من يثني عليه کالدراويش مثلي ليس تهكماً ولا نفاقاً؛ وإنما هو تشجيعٌ وتربية للناشئة تأصَّلت في وجدانه منذ كان معلماً مربياً لسراة القوم؛ فازددت له محبة، ونظرتُ له بعين الأبوة، ولجأت إليه بعد الله في مشكلاتي ومشكلات بعض الضعفاء؛ فكان نِعْمَ العون بماله وجاهه، وكفلني في أزمة مادية حتى قطع جذورها بدعم المحسن الفاضل (محمد بن صالح آل سلطان) رحمني الله وإياهما والقرَّاء، ولقانا الروح والريحان، وبلغ من تشجيعه أنه يُشرِّف محفلي المتواضع بحضوره، ولاسيما في مناسبات الزواج المملة التي هي تكليف أكثر منها تشريفاً؛ فكان يحضر ويتحدث، ويرفع مستوى الحفل، ويُشعر الحضور أنه واحد من العيلة.. وهكذا المناسبات الأدبية يوم كنت رئيساً للنادي الأدبي بالرياض، وهكذا الأحدية بمنزلي.
قال أبو عبدالرحمن: كان رحمه الله تعالى في علاقاته نموذجاً نادراً لمن يبني علاقته على المحبة، ورفع الكلفة، والتشجيع، والتعفف عن تناول الغائب.. لا يرجو مقابلاً لذلك فهو في بحبوبة من الاستغناء عن الآخرين؛ وإنما علاقاته من أعمال الحسية هكذا أعرفه رحمه الله تعالى ولا أزكي على الله أحداً.. وكان لي عادة في النادي؛ وهي کتاب يصدر كل شهر، ودعوة الجفلي كل شهر من حر مالي لا من ميزانية النادي؛ فاشتهر التنكيت بكتاب الشهر، فأضاف أخي (سليمان الحماد) التنكيت بخروف الشهر.. ولما حضر الشيخ (عثمان) إحدى الندوات قال آخر الجلسة: نحن معشر المستمعين علينا حق للنادي، ولابد أن تشرفوني بعشاء أحضره الشهر القادم للنادي مكان خروف الشهر؛ فأحجم القوم حياء؛ فقلت: الله يقويك يا شيخنا، هي مكرمة من كريم إلى مستحقين (وإن كان قلة أحرجوا أن يكونوا فقراء مستحقين)؛ فقال الشيخ: بل أنتم الكرماء، وأنا المستحق لهذا التكريم، فكانت ليلة دعوته ممتعة لا أنساها ما حييت.. ولما حضرته عندما صار يفقد وعيه أحياناً ويُضيِّع، وعنده الشيخ (عبدالعزيز التويجري) ابن أخته وأولاده وحفدته وأنسابه يحفون به، ويتسابقون على خدمته: سودت أبيات أعارض بها أبا العلاء المعري؛ إذ ينعي حظ الشيخ الكبير إذا سئم الحياة، وقلت في نفسي: سريُّ الشيخ عثمان قد طاب غرسه لن يُـحسَ بالشيخوخة، وبهذه المناسبة أخرجت الأبيات من أوراقي، وهي:
أيا شيبة الحمْد الذي طال عمرُهُ
وجرَّب تقواه الشبيبة والعِرْسُ
لأنتَ وليلاك التي شاب فودُها
بطيب مقام مثلما طيَّبَ الغَرْسُ
وما ضرَّ شمعُ النور أنْ ذاب في الدُّجى
وما حمل التثريب بالموفق الطرس
وما احلولكت أيامه من غواية
وقد أشرقت من نوره الجن والإنس
إذا كان أوَّاباً وربُّك راحم
وقد فاز بالغفران واستيقظ الحس
فلا تخشَ جوراً من جفاء ملالة
أيُجفى وفي أعقابه البر والترس
إذا قال قولاً فالهدي منه دَرْبةٌ
وفي صمته هديٌ فيمتنع النَّبْس
وقد أحيا في آخر حياته رحمه الله تعالى ليلة أدبية إثنينية يغشاها النخب، وحضرت بعضها، فيا آل صالح إنْ مصابكم لجلل، ولكن هنئياً لكم ميتة شيبة حَـمْد، وشيخ فاضل في دربٍ مأثور عُمِّر بفضل الله تعالى في عز شامخ، ومحبة عامة، وقرة عين بالأهل والولد؛ فالحمد لله كثيراً؛ وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعانُ.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين