د.محمد بن عبدالرحمن البشر
محزن حقاً ما يواجهه لبنان اليوم من تحديات، ومحزن حقاً ما يعيشه الشعب اللبناني من آلام، فهل من المعقول أن يكون البنك المركزي اللبناني خالي الوفاض من العملات الصعبة، ومحزن حقاً أن لا يقتات معظم الشعب إلاَّ على الكفاف، وأن تنقطع الكهرباء، وتتراكم المخلفات المنزلية، هذا لا يمكن أن يتوقّع حدوثه يوماً ما، أو أن تواجهه تلك الأرض الجميلة المعطاءة، والشعب الذكي المميز بكفاءته وعلمه وقدرته.
دعونا نعود إلى التاريخ البعيد، لنرى أن أجداد هؤلاء الفينيقيين الكنعانيين الساميين كانوا في يوم ما سادة زمانهم، وأن كلمة أوروبا التي أطلقت على القارة الأوروبية العجوز، ما هي إلاَّ اسم أميرة فينيقية لبنانية من مدينة صور، وتقول الأسطورة الإغريقية إن حاكم صور كان له ابنة سماها «يورب» وعاشت في كنف والدها أمير صور، لكنها ذات جمال وعلم وحكمة وأناقة، وجاذبية لا تُوصف كما هي حال سيدات لبنان الكريمات في الوقت الحاضر، فما كان من زيوس، إله السماء والبشر، والطبيعة والبرق والرعد كما يزعمون، وهم منه يخافون، قد تعشق هذه الفتاة ضمن من عشق من النساء، لكنه قد رأى فيها ومنها ما لم يره في غيرها، فهام بها واكتوى بنار عشقها الذي لا يقاوم، فخطفها، وأخذها إلى الغرب، حيث غروب الشمس، وهي باللغة الفينيقية يورب أي غرب، ونلاحظ التقارب في اللفظ، بل شبه تطابق بين كلمة يورب باللغة الفينيقية، والغرب باللغة العربية، ولا غرابة في ذلك، فاللغتان كلتاهما من أصل واحد كنعانيتان ساميتان، وهكذا أخذها «زيوس» إلى هناك، حيث الطبيعة والمطر والرعد والبرق، وأطلق اسمها على قارة أوروبا تخليداً لذكرى حبيبته الفينيقية اللبنانية الأميرة من مدينة صور.
ومدينة أم جبيل القديمة التي كانت تُسمى بيبلوس لها نصيب كبير من صنع تاريخ لبنان، وشاهد على كفاءة أبنائه، فقد كانت مرفأً مهماً لتصدير الخشب والبضائع، حيث يجوب أبناؤها على مرافئهم التي صنعوها من إنتاج أخشاب بلادهم، الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ليرسلوا أخشاب الأرز إلى مصر زمن الفراعنة، حيث كانوا يصنعون من تلك الأخشاب توابيت موتاهم، ويستخدمونها علاة القوم في أثاثهم نظراً لتميزها عن غيرها من الأخشاب حتى وقتنا الحاضر، وكان حكامها من الذكاء والفطنة لتجاوز ما يمكن تجاوزه من غزوات الإمبراطوريات الكبيرة والقاسية المحيطة بهم من خلال التوازن بين القوى.
ومدينة صيدا التي صنعت أكثر مراحل تاريخ الفينيقيين إثارة، ذكرت أكثر من مرة في كتب التوارة، وكانوا أحياناً يطلقون على الكنعانيين اسم صيدون، أي سكان صيدا، لما تلعبه من دور في التجارة، فرغم أن ذلك الساحل لم يشكِّل إمبراطورية كبيرة، كما هي الحال في العراق ومصر، إلاّ أنها قد اتجهت للتجارة منذ وجودها، ويقال إن صيدا قد أنشئت عام 1750 قبل الميلاد، ويقول أحد المؤرِّخين البارزين إن الفراعنة هم أول من أوجد الملكية في العالم، واليونان وبالذات أثينا الديمقراطية، وأن الفينيقيين أول من مارس التجارة البحرية البعيدة.
صيدا وأبناؤها الصيدونيون، اتجهوا من البحر الأبيض المتوسط في الألف الأول قبل الميلاد أو ما قبله إلى الغرب، وضعوا لهم مراكز تجارية على جانبه، والبعض منا يعرف قصة أميرة صيدا، وأخت ملكها، وزوجة عمها، التي غادرت بلادها خوفاً من ظلم وجبروت وطغيان أخوها، لتكون أعظم إمبراطورية في إفريقيا، وهي إمبراطورية قرطاجة، فقد حلّت هذه الأميرة في تونس وبنت مدينة قرطاجة ومنها، توسع أحفادها ومن جاء معهم حتى طرقوا أبواب روما، ووصلوا سفنهم إلى أعمدة هرقل في المغرب، وبنوا لهم مرافق على شواطئ إسبانيا والبرتغال، وربما إلى الجزيرة البريطانية، وتوجهوا جنوباً من شواطئ طنجة حتى وصلوا شواطئ السنغال وتجاوزوها، حتى أسقطت إمبراطوريتهم الرومان. وفي زمننا الحاضر، ومن أمد الله في عمره وكان قادراً مالياً في شبابه فلا بد أنه قد زار لبنان، ليقضي فصل الصيف البارد الجميل في أمن وأمان.
اليوم لم تعد لبنان كذلك، فبعض الحاضرين أو آبائهم من اللبنانيين، قد رأوا بأم عينهم تلك الأيام الجميلة، والليالي المليحة في ذلك البلد الرخي الآمن، الممتع بكل أنواع الموضة والملابس والمأكولات المتنوّعة، وقبل ذلك المطابع والكتب والعلماء والشعراء والأدباء ورجال الدين من الطوائف المتوافقة والمتعايشة.
بعد أن حلّت بهم الأيدولوجيا، وتمت صناعة حزب الله، وأخذ التنافر يسود، وصوت المدفع يعلو، وقيمة الأرض والمواطنين رخيصة، ضاعت لبنان، أو كادت، ونتمنى أن تعود كما كانت.