بدرية البليطيح
منذ سنوات وأنا أقاوم فكرة الكتابة عنها ليس لعدم رغبتي في ذلك، بل لأنني أراها أكبر من مجرد كلمات تختزنها سطور، فمن هي تلك المرأة التي ملأت ذاكرتي بتفاصيلها منذ أيام الطفولة إلى يوم رحيلها رحمها الله قبل سنوات، هي العمة حصة الفريح المعروفة بـ(أم فهد) ولأنها عمة والدتي المقربة لها اعتدنا على زيارتها في بريدة كل صيف، وكنت متعجبة من قوة شخصيتها المزدوجة التي جمعت بين صلابة الرجل ورقة الأنثى وما تحظى به من مكانة بين أهلها ولصغر سني فقد عجزت عن تفسير الكثير من علامات التعجب آنذاك، ومما رسخ تلك الصورة اللامعة في ذهني وجعلني أراها امرأة (استثنائية) مختلفة عمن حولي من النساء رغم اعتزازي بشخصية والدتي الحكيمة حفظها الله بشهادة الجميع رجالا ونساء، والتي أخذت من عمتها الكثير من الصفات مما جعلهما مضرب المثل بالصبر والتحمل وحسن التصرف أمام مشاق الحياة، إلا أنني رأيت في أم فهد شيئاً مختلفاً فهي قد تعدت محيطها المألوف ووظيفتها كزوجة وأم فقط لدائرة أوسع يشوبها الغموض أمام طفلة لا تدرك الكثير وترى بعض الأعمال لا يقوى عليها سوى الرجال ولا يذكر بها غيرهم، ومع ذلك فقد أشبع بعض فضولي عنها موقف أو مشهد لا يمكن نسيانه حيث دار حديث بينها وبين والدتي حول قطع ذهبية كانت تحيط بمعصمي وهي (الغوايش)، وبذلك الوقت كانت تتجدد موضتها فتظهر دقة جديدة ولا بد من تجديدها واستبدالها كي تواكب الموضة، فكانت تعاتب والدتي بلهجة جادة مبطنة بالحرص والشفقة عن سبب عدم استبدالها خاصة وقد ضاقت بها يدي وبهت لونها، ففهمت من والدتي أنها لا تجد وقتاً وخبرة لتفاوض وتبيع وتشتري في محلات الذهب كما تعرف ذلك هي، فأمسكت بيدي الصغيرة بحزم وهي تحتضنها بحرص بين الشدة واللطف وتقتحم الممر الضيق بكل ثقة، تخفي جسدها النحيل بخمار طويل لا يظهر منها سوى أطراف أصابعها، كنت مرعوبة أقاوم طوفان المارة حولي وتعالي أصوات البائعين المتجولين وهم يسوقون بضاعتهم وبداخلي يتراقص الفرح على دقات قلبي الصغير المتسارعة.
تعرقت يدي وهي تحكم قبضتها عليها وتردد الاستغفار والذكر، وبينما كنت أتأمل خطواتها الواسعة محاولة اللحاق بها وتقليدها توقفت فجأة أمام أحد محال الذهب، فرفعت صوتها وهي تلوح بيدها: السلام عليكم. رد عليها البائع السلام بصوت مرتفع هلا أم فهد حياك الله آمري.. سألته بجدية عن سعر غرام الذهب وهي ترفع يدي: «نبي يا أبو محمد لهالبنت غوايش تراعينا ولا نشوف غيرك..!!» ترك ما بيده وهو يرحب: ما عليك ما نختلف أم فهد تعالي اختاري بس وسط نظرات التعجب ممن حولي، فقد ترك الجميع وقدم لها الخدمة بكلمات مختصرة جدا وعلاقة رسمية وضع يدي بداخل كيس وبعض الشامبو فتزحلقت القطع القديمة مع بعض الألم، تحولت الدمعة للفرح بالقطع الجديدة وهي تلتمع بجمال آخاذ على يدي لم استوعب بقية المشهد وما دار من حوار مع الأسف، لأنني كنت أحتفل مع كل حواسي بجمال تلك الغوايش الفاخرة واستمتع بصوتها وهي تهتز وتعزف مع أي حركة وعندما شعرت بانشغالي وفوضى مشاعري أمسكت بيدي الثانية في طريق العودة.
كبرت مع الأيام فعلمت أنها من سيدات الأعمال في زمنها والكثير من التجار يعرفونها ويتعاملون معها بكل ثقة، تسلف هذا وتتدين من ذاك تفرج هموم من يطلب منها مساعدة وبعض المساكين يتكدسون عندها فتوزع عليهم المقسوم من مال أو طعام وبسرية تامة لم نعرف ذلك إلا بعد رحيلها وبكاء الكثير عليها.
ليست هذه القضية فالكثير من الرجال والنساء لديهم الأعمال التجارية والخيرية منذ الأزل إلى يومنا هذا، القضية أنها المرأة التي ابتدأت مشوارها من الصفر وبظروف صعبة جدا، ولم تحظ بالأضواء مع الأسف لتصف تجربتها كما هو حال بعض الناجحين من تجار وغيرهم، ولم يتناول سيرتها أحد لتخلد بالكتب كمتصفح لإشعال الهمة ورعاية الجيل الطموح، المرأة التي قدمت لعائلتها الكبيرة الحياة المرفهة على طبق من ذهب فكيف تم ذلك وكيف تبدأ يومها، حقيقة لم استطع الإلمام بكل شيء فاستعنت بابنها الفاضل الدكتور الشيخ أحمد التويجري الذي لازمها كثيرا ولزم قدميها حبوا ورعاية، فلم يذهب لحج أو عمرة إلا كانت بجانبه قضى مشاويرها وساندها مع بقية أخوته وأخواته وهي بقمة شبابها واحتضنها كابنته بعد أن ودعها الشباب والصحة حتى غادرت الحياة راضية عنه وقد تعدت التسعين عاما.
منذ صباها لم تكتف بعمل زوجها المتواضع الذي بالكاد يوفر لقمة العيش كبقية أغلب الأسر المتواضعة حولها، فرسمت لأبنائها حياة كريمة وعملت على التنفيذ بلا تردد، كانت تتطلع لما فوق السقف وما بين النجوم، ترى أن امتلاك المنزل هو الأمان بعد الله للأسرة وللمرأة خاصة، فلم تفتر همتها أو تغريها الحياة بنيل قسط من الراحة قبل أن تصل للهدف الذي رسمت طريقه وهي على يقين أنه مليء بالأشواك والمتاعب والألم، فامتلكت العديد من البيوت بل كان آخرها استراحة جميلة تجتمع بها مع أبنائها وعوائلهم نهاية كل أسبوع، ولأنها تحب ما تقوم بعمله كانت تجدد طاقتها وتشحنها بصفاء النية وسلامة الصدر وحب عمل الخير والصدقة ولو بمبلغ قليل هو شعارها للاستمرار والنجاح والتوفيق، بعيدة كل البعد عن التردد والكسل لا يكسر كلمتها ولا يجعلها تتراجع إلا خوفها من الله ومراعاتها لحقوق الناس، تميزت بالتقى والحياء مع الجدية والوضوح، فقد كانت تمارس عملها خلف عباءتها الواسعة التي لم تكن لها عائقا يوما بل معينا وحماية، صوتها الواضح الجاد وكلمتها الصادقة هي جواز مرورها إلى عالم التجارة بلا شهادات أو دورات مدفوعة الثمن، مع حرصها على الأمانة ولو كان ذلك ريالا واحدأ كما قال ابنها د. أحمد تقول دوما يا وليدي تصدق ولو بريال كل شيء ينفع، وحرصها على صلة الرحم يقول بأنها تتفقد أحبابها عبر الهاتف الثابت ولو بكلمتين كيف حالك ومع السلامة.. قليلة الكلام كثيرة الأفعال يعرف عنها ذلك من عاشرها ويشهد لها بذلك.
كانت لها بصمتها الواضحة عليه فتعلم منها كيف يكون ناجحاً لأنه كان يراقب تحركاتها وينفذ أوامرها ويستمتع بدعواتها وفرحها عند حصوله لمنصب أو درجة وشهادة علمية جديدة، ويتعلم منها معنى الصبر والصمود والنجاح كما كانت المعين بعد الله لكل أبنائها من الجنسين، ساعدت المحتاج ودينت من يستطيع منهم رد الدين فامتلكوا البيوت وزوجتهم وقدمت الهدايا لأبنائهم وزوجاتهم، والبنات من تحتاج منهن تعينها على مشاق الحياة (ماما حصة) لم تقف عاجزة كأنثى محاربة من الرجال بل رسمت طريقاً جديداً للمرأة العصامية بذهن أي رجل تقابله أو تتعامل معه.
بداية النجاح كانت بالانتقال من ذلك البيت الشعبي الضيق الواقع بشارع الصناعة ببريدة لمنزل جديد بحي راق، ليتحول البيت القديم لمقر كامل لمشروعها الحلم الذي كان محصوراً بغرفة صغيرة منه، نشاطها التجاري كانت بدايته بيع الآيسكريم الأحمر المثلج الذي تصنعه بنفسها، ثم تطور لصنع وبيع الكعكات اللذيذة التي كانت تحمل مع جهاز العروس لبيت زوجها بصناديق وتوزع على الناس، كذلك عملت بجميع أنواع البهارات ذات الرائحة النفاذة ذات الخلطة السرية والحنا والورد الذي يعطر به الشعر، ثم تشحنها بكميات لتجار التجزئة أو لمن يطلبها، ثم عرفت بالكليجا اللذيذة التي تصنع بمهارة يتقاطر منها الدبس والعسل حتى ارتبطت فكرة بريدة بعقلي منذ الصغر بالكليجا، ومع ازدياد العمل استعانت برفيقة لها تؤنسها وتساعدها على اتفاق بينهما ويتم ذلك بأفران كبيرة لم أر مثلها في ذلك الزمن الجميل، وتخرج من الفرن تفوح بالرائحة الزكية ليتم تعبئتها بكراتين وتسلم حسب القائمة وعليها إقبال كبير، غير عملها بتجارة الذهب.. وإلخ. أما يومها فقد كان منظماً دقيقاً تهتم بالوقت كثيراً وتحرص على الدقائق أكثر من الساعات أما السهر فلا وجود له في قاموسها أبدا، هو بالفعل نظام كل من سمعت لهم لقاء أو مقابلة كالشيخ ورجل الأعمال الناجح: سليمان الراجحي وغيره، النوم ليلاً والسعي نهاراً، بل ببواكير النهار، كما قال رسول الله المصطفى عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار ولنا به أسوة حسنة.
وبشكل دقيق كانت تقوم قبل الفجر بساعة لتمارس صلواتها وتبث دعواتها لنفسها ولذريتها بسكينة وهدوء وعند الأذان تصلي وتتناول قهوتها، ومع الإشراق تنطلق لمكان عملها ولا تعود إلا مع صلاة الظهر لتتناول وجبة الغداء مع التقليل من الطعام ما يسد حاجتها فقط وأهمها التمر واللبن والخضارمما جعلها تتمتع بالصحة ولم تشك من الأمراض والسمنة كالنساء بعمرها، ثم تأخذ قسطا من الراحة قيلولة ساعة بعد الظهر ومع العصر تذهب لمواصلة عملها اليومي، ثم تعود منهكة بعد العشاء تتناول الطعام وتتفقد أسرتها وأمورهم ثم تنام بوقت مبكر، استعدادا ليوم جديد ومن يتوسل إليها من أبنائها لتترك العمل مقدما لها ما تحتاج إليه تعبس في وجهه قائلة: يا وليدي تبيني أموت الشغل هو حياتي وراحتي.
استطاعت مع تخطي بعض الصعوبات أن تصل لما خططت له بتوفيق الله وتوزيع بعض المهام على من حولها في المنزل وغيره بطريقة ذكية متقنة ظهرت نتائجها على المدى الطويل فالنجاح لم يحالفها فقط بل حالف أبناءها وأحفادها رحمها الله.