د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
زارني ابنه الشيخ خالد وبعد أن همَّ بالمغادرة أخبرني أن والده في مدينة الملك فهد الطبية, وقد تجرى له عملية في الظهر بعد استكمال الفحوصات, وكان ذلك عام 1433هـ, فذهبت معه لزيارة والده, فلما دخلتُ عليه وهي المرة الأولى التي أراه فيها, وكان عنده ابنه فيصل وبعض قرابته, سلمتُ عليه وجلست أمامه, وكان متكدر الخاطر؛ إذ لا يحب البقاء في المستشفيات أبداً, وقد ظهر ذلك جلياً على وجهه, فبعد الكلام المشروع في الدعاء للمريض, قلت له: عملية في الظهر يا أبا فيصل؟! وش ناوي عليه؟ فضحك رحمه الله, وفهم المقصد وكان لماحاً, فما زلتُ أحدثه, وهو تارة ينظر إلى ابنه خالد, وتارة إلى ابنه فيصل, كأنه يقول: من أين أتيتم بهذا؟ حديثكم عن الصبر وإجراء العملية, وحديثه عن الفأل والزواج, لحظتُ تعجبه, وكنت قاصداً الترويح عنه وإدخال السرور عليه, فما زلت أحدثه حتى أبرق وجهه, وزال كدره, فودعته على لقاء آخر.
يسر الله لي الذهاب إلى منطقة الحدود الشمالية مرات ومرات فكنت ألتقي به رحمه الله في كل مرة أكثر من لقاء, فالعلاقة مع أبنائه علاقة وثيقة مبنية على محبة وصحبة, فكان يفرح جداً بالزيارة, بل أذكر في إحدى المرات التي عقبت خروجه من المشفى, وكان مجلسه مشهوداً كالعادة من مشايخ وطلاب علم قدم بعضهم في الطائرة التي قدمت بها فلسنا من أهل المنطقة, فلما حضر العشاء قال لضيوفه وهو فرح بمن حلَّ منزله ودخل محله: تفضلوا حياكم الله, فتقدم الأكبر فمن يليه حتى وصلتُ إليه داعياً له بموفور الخير, وهو لا يفتر ترحيباً بالضيوف, فمسك يدي قائلاً: العزيمة لك, وما كنت لأقدم أحداً عليك! فلك منزلة عندي ترجح بهم كلهم!
سلوا عن مودات الرجال قلوبَكم
فتلك شهود لم تكن تقبل الرشا
كنا نسمر سوية في منزله أو منزل أخيه أو في مكان قد اتخِذَ في البرية, فكان يستمع للحديث جده وهزله المباح بإنصات تام, وأدب لافت.
زارني في الرياض أكثر من مرة, وحضر مناقشة ابنه الشيخ خالد للدكتوراه, وكنتُ أحد المناقشين لرسالته, فلما رآني تهلل وجهه, فقصدته للسلام عليه, وقلت له: عساك جئتَ بالسيف! فضحك وكما قلت كان لمَّاحاً, ثم همستُ في أذنه بشيء فضمني إلى صدره رحمه الله.
كان مضرب مثل في أنواع من العبادات منها:
- البر بوالدته رحمه الله ورحم بطناً ركض فيه, أذكر قصة واحدة من عجيب صنعه في هذا الباب, وهو أنه قد حج بوالدته قبل أربعين سنة وهم في يوم عرفة وبعد صلاة الظهر والعصر كانت أمه مع النساء وهو مع الرجال, فقالت امرأة: ليت من معه قهوة يشربها الآن, فقالت أمه: سهلة صالح ولدي يجيب قهوة! فقالت المرأة: لا تكلفينه, شمس ومُحْرِم وفي عرفة, وين بيلقى قهوة تباع!
فنادت ابنها مخبرة أنها مشتهية قهوة, فقال: أبشري بها, فذهب يطوف طرقات عرفات يبحث عن تلبية طلب أمه أمضى ساعة ثم أخرى تحت أشعة الشمس حتى ظفر بعد مضي ساعتين على الأقل, وهو فرح أنه وجد مطلوب أمه, فعاد إليها مسرعاً ودفع زمزمية القهوة من وراء الرواق!
أي عمل صالح قام به في ذلك اليوم؟ أدخل السرور على قلب أمه, ولبى طلبها, ورفع بين النساء رأسها.
دعت له أمه في يوم عظيم: بأن يبيض الله وجهه ويغفر له.
يستطيع أن يقول: لم أجد بعض مضي دقائق معدودة, وهو معذور في ذلك, لكن حرَّكه البر بوالدته, وإدخال الأُنس إلى قلبها, وإسعادتها فرحمه الله وغفر له.
- إقباله على قراءة القرآن, وهذا قد اشتهر عنه, مرة جئت لزيارته بعد العصر, فقال لي ابنه الشيخ خالد: الوالد سيتأخر قليلاً يقرأ القرآن في المسجد, ومرة بعد العشاء, فقال لي أحد أبنائه: الوالد في المسجد يكمل ورده من كتاب ربه, كان يترسل في القراءة ولا يعجل فيها.
- الكرم ومسابقة أبي فيصل إليه, كان رحمه الله من أكرم الرجال, يتلذذ بدخول الناس عليه, وأكلهم من مائدته, حتى كأن حاله كما قال دعبل الخزاعي:
الله يعلم أنني ما سرَّني
شيء كطارقة الضيوف النُّزَّلِ
ما زلتُ بالترحيب حتى خِلْتُني
ضيفاً له والضيف رب المنزل
كان لا يتصنع الكرم والجود بل كان كرمه سجية له رحمه الله, كما قال المتنبي:
وللنفس أخلاق تدل على الفتى
أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
حتى لو جئته على غير ميعاد, فصُنْعه للضيف كأنه على ميعاد.
كأنّ الزائرين إذا أتوه
مفاجأة أتوه على تعاد
يجود ببشاشة وجهه, وكرم نفسه قبل كرم اليد وبذل المال.
بشاشة وجه المرء خير من القِرى
فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك
عاملاً بما دل عليه الشرع من حسن الضيافة وكرم الوفادة, كم زرته فوجدت السعادة في وجهه رحمه الله, كان يردد حين كان ينطق لسانه «هذه الساعة المباركة», «أعز من يدخل المحل» ليس في نفسي هماً أني ربما أثقلت عليه أو على أبنائه؛ لما أرى من صدق محبته, وعظيم كرمه وشهامته, فهو متمثلٌ قول القائل:
فكن باسماً في وجهه متهللاً
وقل مرحباً أهلاً ويوم مبارك
- الصبر, مرت على أبي فيصل أحداث جسام تناولته واستعان الله عليها بالصبر, كأن الصبر له سجية! حدثني ابنه الشيخ فيصل قائلاً: (لا أعرف موضعاً من جسد أبي إلا وقد ابتلي فيه!), منذ عشرين سنة وهو يتقلب في أمراض وأوجاع, من وجع الداء إلى ألم الدواء, فَقَدَ رحمه الله جملة من منافع بدنه, كمنفعة المشي, والحركة, والكلام, والتلذذ بالأكل, على مراحل بينها, حلتْ بجسده -حرَّمه الله على النار- الجلطات, فأثَّرت عليه كثيراً بقضاء الله وقدره, وهو فيما أحسبه كان صابراً محتسباً لم يشتكِ لأحد حتى أولاده, لم يتذمر أو يظهر السخط أو تعتل نفسيته في التعامل, بل كان متجلداً ثابتاً قوياً, لك أن تعلم أنه ربما أراد شيئاً فيغمغم بصوته فلا يدري ولده ومن حوله ماذا يريد, فلا يُحقق طلبه ولا يستطيع من حوله أن يسعد بخدمته وتلبية طلبه! خاصة في أسابيعه الأخيرة, ومع ذلك كان يبتسم ويضحك, اتصلتُ عليه قبل وفاته بأسبوعين أو ثلاثة فلما قيل له: هذا فلان سيتحدث إليك ابتسم ابتسامة المحب كما أخبرني ابنه الشيخ الدكتور خالد, فلما حدثته ضحك حتى كاد يشرق رحمه الله, وكنتُ أحدِّثه وهو لا يجيب, سوى أني أسمع نغمات ضحكه رحمه الله؛ إذ قد فقد القدرة على الكلام تماماً.
إنَي أُقاسي خُطوباً ما يَقُومُ لَهَا
إلاَّ الكِرامُ على أمْثالِها الصُّبُرُ
حدثته مرة عن الصبر, وقلت له: الحمدلله أنك يا أبا فيصل مدرسة في الصبر, يتعلَّم من عرفك كيفية الصبر, وأبشر بالخير, فالله إذا أحب عبداً ابتلاه, فكأن لسان حاله يقول:
وإني لصبّار على ما ينوبني
وحسبك إن الله أثنى على الصبر
كان سليم الصدر طاهر القلب -فيما أحسبه- محباً للخير يبذل نصحه للناس القريب منهم والبعيد, لما تولى ابنه الشيخ خالد القضاء ونال درجة الدكتوراه, كتب إليه بنصيحة ملؤها الشفقة والنصح لابنه في عِظَمِ المسؤولية التي تحملها وكيفية القيام بها, والتأني وعدم العجلة, ومراقبة الله.
كان رحمه الله يجتهد في أن يصلح بين المتخاصمين ويكتب إليهما, كان بعيداً عن العداوات والخصومات والمنازعات, كافاً نفسه مترفعاً أن يقحمها في خصومة مع أحد, عفيف اللسان, لين الجانب, جميل العشرة.
رحل عن الدنيا ولم يدخل في تجارة ولا بيع وشراء, ولم يترك خلفه مما هو ظاهر إلا بيته الذي يسكنه, وسيارته التي كان يذهب عليها.
كان جاداً في أمر العبادة, محافظاً عليها قدر طاقته, من صلاة وصيام, ففي رمضان هذه السنة (1442هـ), كان يلزم نفسه الصوم على علات جسده المنهك بالأمراض, ولم يأخذ بالرخصة, فصام خمسة وعشرين يوماً, والخمسة الأيام الباقية كذلك يبدأ بصومها, فإذا نُظِرَ في مستوى السكر لديه, إذا هو منخفض جداً, فيلزمونه بالإفطار على كراهة منه مع أنه لم يبق على مغيب الشمس إلا أقل من ساعة, أسأل الله أن يوفيه أجره بغير حساب.
قد كنتُ أنظر إليه إبّان حياته وهو مقعد على كرسيه, وأقول لعله يدخل بفضل الله وإحسانه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة، لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده ثم صبَّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى».
قدم من عرعر إلى مدينة الرياض صباح يوم الأربعاء 14 - 10 - 1442هـ ليتلقى العلاج التأهيلي في مدينة الأمير سلطان للخدمات الإنسانية, فأدى صلوات ذلك اليوم كلها, وقبل نومه طلب أن يتيمم بإشارة مفهومة؛ لينام على طهارة بعد يوم كامل من عناء السفر وإرهاق المرض, فكانت تلك هي نومته التي فارق فيها الدنيا, فأصبح جسده رحمه الله فجر الخميس بلا روح.
رحل عن الدنيا تاركاً تعبها ونصبها وغثاءها, وقدم على رب كريم, مات رحمه الله ولم يبلغ السبعين.
إيه مرت تلك السنون, وذهب بأبي فيصل المنون, و إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ .
ذلك هو الأستاذ الكريم الوجيه أبو فيصل صالح بن مهاوش الجنيدي الذي بدأ حياته العملية في مهنة من أجل المهن والأعمال وهو التعليم فكان معلماً ثم انتهى به التطواف إلى مساعد مدير عام التعليم بمنطقة الحدود الشمالية, فرحمه الله وغفر له, كان كالمسك إن بعته نفق, وإن تركته عبق.
بيضُ الوُجوهِ كريمةٌ أحسابُهمْ
شُمُّ الأنوفِ مِنَ الطّرازِ الأوّلِ
خلَّف ذكراً حسناً , وذرية قرَّتْ بها عينه, خَلَفَ الله على أهله وولده ومحبيه خيراً, والحمد لله على قضائه.
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء