يتحدث الكاتبان الصحفيان الألمانيان هانس بيتر مارتين وهارالد شومان عن الآثار السلبية للعولمة فيقولان إن هناك إحصائية في أن 358 مليارديراً يمتلكون معاً ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان المعمورة، الذين هم الآن على قدر كبير من التحكم في الاقتصاد عن طريق المتاجرة بالعملات والأوراق المالية بكل حرية بعيداً عن الرقابة الحكومية، ومثال ذلك انه في عام 1992م حينما اقتفى بضع مئات من مديري المصارف وصناديق الاستثمار خطى عملاق المال جورج سورس، وراهنوا بمليارات الدولارات على تخفيض سعر صرف الجنيه الإسترليني والليرة الإيطالية، والذي لم يستطع المصرف المركزي البريطاني والمصرف المركزي الإيطالي من وقف سعر صرف عملتيهما على الرغم أنهما جندا احتياطييهما من الدولارات والماركات تقريبا لدعم سعر الصرف، فعندها قررا الانسحاب من نظام النقد الأوربي مع أن العضوية فيه من مصلحتهما الاقتصادية.
ومع هذه الحرية السائدة أخذ المضاربون يزدادون طمعا فضيقوا الخناق على العديد من رؤساء الحكومات الذين لم يتبق لديهم سوى الشكوى واللوم والانتقادات دونما جدوى فلقد اشتكى رئيس الوزراء البريطاني جون ميجر في أبريل من عام 1995م فراح يقول انه لا يجوز ترك العمليات في أسواق المال (تتم بسرعة وبحجم كبير، بحيث لا تخضع لرقابة الحكومات أو المؤسسات الدولية) وأيده في ذلك رئيس وزراء إيطاليا الأسبق لامبرتو ديني والذي كان يوماً محافظاً لمصرف بلاده المركزي حيث قال انه (يجب منع الأسواق من تقويض السياسة الاقتصادية لبلد بأكمله) أما الرئيس الفرنسي جاك شيراك فإنه يرى أن القطاع المالي بأجمعه مدعاة للاستنكار وسمى دون مواربة المضاربين فيه (بأنهم وباء الايدز في الاقتصاد العالمي).
ومع هذا يقول الكاتبان إنه لا وجود البتة للمؤامرة المزعومة، ولا يوجد هنا تحالف مصرفيين متكالبين على جني الأرباح الطائلة، وليس هناك أبداً لقاءات سرية خلف الكواليس القصد منها تخفيض عملة هذا البلد أو ذاك، أو رفع أسعار الأوراق المالية في هذه البورصة أو تلك.
إن ما يحدث في أسواق المال هو بلا ريب، الحصيلة المنطقية للسياسة التي انتهجتها حكومات الدول الصناعية الكبرى، منطلقة من النظرية الاقتصادية الداعية إلى ضرورة تحرير الأسواق من القيود والحدود، التي ألغت فيه هذه الحكومات منذ السبعينيات وعلى نحو منتظم ودؤوب، كل الحواجز التي كانت تتحكم في تنقلات رؤوس الأموال دولياً، الذي خرج عن السيطرة.
فازداد تنقل رؤوس الأموال بشكل كبير وارتفعت قيمة تداول العملات الأجنبية والأوراق المالية على المستوى العالمي إلى ما يزيد على عشرة أضعاف في عام 1985م.
هناك شركات عملاقة عابرة للقارات يرى فيهما الكاتبان أنها تمثِّل رعباً للحكومات وتجرد الجميع مما لديهم سطوة, تمتلك أربعين ألف شركة تمتلك مصانع فيما يزيد عن ثلاث دول وفق إحصاءات منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية, وصلت فيها مبيعات المائة شركة منها الكبرى إلى ما يقرب من (1.4) بليون دولار في العام الواحد, تهيمن هذه الشركات العابرة على ثلث التجارة العالمية، ينجز ما يقرب من نصف هذه التجارة في داخل شبكة المصانع التي تعود ملكيتها إلى الشركة الأم، أصبحت هذه الشركات محور العولمة والقوة الدافعة لها بلا انقطاع.
من ضمن هذه الشركات العملاقة على سبيل المثال شركة (NIKE) للأحذية الرياضية الباهظة الثمن الذي يصل ثمنها في أوروبا وأمريكا 150دولاراً، يقوم بإنتاجها في إندونيسيا حوالي مائة وعشرين ألف عامل وعاملة يعملون لدى موردين محليين لهذه الشركة العملاقة بأجر يقل عن ثلاثة دولار في اليوم وهذا الأجر لا يسد الرمق، ويضيف الكاتبان أيضاً انه يوجد في المكسيك شركات أمريكية متعددة تشغّل نصف مليون عامل مكسيكي في مشروعات لا يزيد أجر العامل عن خمسة دولارات في اليوم، ولا يحصل هؤلاء العاملون على مدفوعات اجتماعية كالتأمين الصحي أو الضمان الاجتماعي، هذا حال بعض الشركات التي تعمل بجزء من أعمالها في الخارج والتي تسعى إلى الربح بأجور منخفضة وضريبة أقل، تستغل أبناء الطبقة الفقيرة في ظروف عمل لا تتصف بالإنسانية، تحقق هذه الشركات الانتعاش الاقتصادي للطبقة الوسطى فقط.
ونكتفي بهذا القدر المختصر مما قام به الكاتبان هانس بيتر مارتين وهارالد شومان من بحث ودراسة قيمة عن تداعيات العولمة اللذان حذَّرا في النهاية أن أصحاب رؤوس الأموال أصبحوا يتحكمون في السوق على نحو مخيف، فهم يهددون بهروب رؤوس أموالهم ما لم تستجب الحكومات لمطالبهم وهي مطالب عديدة مثل منحهم تنازلات ضريبة سخية، وتقديم مشروعات البنية تحتية لهم مجاناً، وإلغاء وتعديل التشريعات التي كانت تحقق بعض المكاسب للعمال والطبقة الوسطى، مثل قوانين الحد الأدنى من للأجور ومشروعات الضمان الاجتماعي والصحي، وإعانة البطالة، بما يقلِّل مساهماتهم المالية في هذه الأمور.
وحذَّرا كذلك أنه إذا سارت الأمور على منوالها الراهن فإنه في القرن القادم سيكون هناك فقط 20 % من السكان الذين يمكنهم العمل والحصول على الدخل والعيش في رغد وسلام، أما النسبة الباقية (80 %) فتمثّل السكان الفائضين عن الحاجة، الذين لن يمكنهم العيش إلا من خلال الإحسان والتبرعات وأعمال الخير.
وأخيراً دعا الكاتبان إلى عدم الخضوع لهذه الآثار السلبية، بل يجب النضال من أجل الوقوف ضد الديكتاتورية للأسواق المعولمة، ووقف الجنون في السوق العالمية، ومراعاة إنسانية الإنسان، وحماية البيئة والعدالة الاجتماعية.