د.فوزية أبو خالد
كأن تلك الأطياف كانت تموج بالعمر والأنوثة والشعر بين البحر والجبل على أرض مسقط قبل لحظات ليس إلا.. كأن تلك الكوكبة من البنات كانت تموج مفعمة بماء الحياة على أرض عُمان منذ الأزل الذي خطت فيه السيدة حواء عليها السلام حافية القدمين منصوبة القامة لأول مرة على الأرض.
لقاء ساخن كقهوة مبهرة تغلي على جمر الغضا يسري عبيرها في العروق ويعبر مياه الخليج إلى دجلة والفرات ونهر النيل وبحر العرب والهلال الخصيب وسواحل الأبيض المتوسط.. سبع شاعرات.. تسع شاعرات وشاعرة. شاعرات بقصائد طويلة تطول النجوم بلمسة واحدة.. شاعرات بقصائد نصلية تقطر راحا قراح.. شاعرات بقصائده براقة كأن الشمس طبعت قبلة خاطفة على الورقة.. شاعرات بقصائده تخرج من شجن الناي وأخرى من تمرد النوافير أو رفض الحروب.. قصائد مكتوبة بتيه العشق وقصائد مكتوبة بتيه التحولات على دروب غامضة بين مدن وريف وصحراء...
هذه مغامرة القصيدة وغوياتها لشاعرات من الأجيال الأولى لحركة الشعر الحديث بالوطن العربي
شاعرات عبر الوطن العربي بعضهن ولدن على فجيعة معاهدة سيكسبيكو في قلب تلك العتمة التي كانت سحبها الداكنة قد بدأت تلف أجزاء واسعة من الأرض العربية وتحشرها تحت نير الاستعمار الفرنسي والبريطاني.. شاعرات ولدن على أتون النكبة التي سرقت بلداً كاملة اسمها فلسطين وشردت شعبها برمته في العراء.. شاعرات ولدن على حركات التحرر الوطني بمصر وسوريا والجزائر والعراق وشاعرات صادف قدومهن للحياة نكسة حزيران 67م أو حرق المسجد الأقصى بعدها بأعوام.. وأخريات خيل لأمهاتهن أنهن محظوظات لولادتهن في عصر الإرادة العربية يوم نجح العرب في قطع البترول عن الغرب وتسجيل نصر أول في المواجهة العربية مع العدوان الإسرائيلي يوم عشرة رمضان/ أكتوبر 73م.. وشاعرات خرجن من رحم حروب وصراعات مضنية على أرض اليمن ولبنان والعراق ومجابهة إيران و..و..
* * *
في لقاء الخنساء الشعري الأول على أرض مسقط حمل تواجد هذا الطيف المتعدد من الشاعرات العربيات القادمات من مختلف دول البلاد العربية ذلك الاسم الشاسع في تاريخ النساء الشعري المحفور عميقا في جغرافيا أرض الجزيرة العربية والممتد عميقا في تاريخ الشعر العربي من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث بكل ما تحمله رمزية سوق عكاظ من علاقة مشيمية بين الأرض العربية وبين الشعر من مصابه الأولى شديدة الصفاء إلى ينابيعه عبر مئات الأعوام شديدة التنوع.
لا أظن أنه سبق واجتمع في لقاء شعري واحد وفي مكان واحد على أرض الخليج العربي في الهزيع الأخير من نهاية القرن العشرين أبريل 1999م ذلك العدد من شاعرات الوطن العربي المنتميات لعدة أجيال ولعدة مشارب شعرية من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة بتنويعاتها إلى قصيدة النثر بتجددها اللا متناهي...
- حضرت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان بجسدها الناحل الصغير ومحياها الهادئ الحيي وبقصائدها الوطيدة كجبل الكرمل ومكانتها المتمكنة في الوجدان الجمعي العربي من المحيط للخليج.. تقرأ شعر النضال بهديل حمامة سلام. من دواوينها وحدي مع الأيام، الليل والفرسان، أعطنا حبا، تموز والشيء الآخر واللحن الأخير (1917 - 2003).
- حضرت الشاعرة المصرية ملك عبدالعزيز شمعة نحيلة أخرى لولا شمس الشعر التي لوحت قصائدها بماء من ذهب براق كما لوح الزمن ضفيرتها الطويلة بلون فضي رقراق تلمع على شالها القرمزي الوهاج. من أعمالها أغاني الصبا، أغنيات الليل وقال المساء (1921 - 1999).
- حضرت الشاعرة العراقية لميعة عمارة بقصائدها تقطر ماء سلسبيلاً باللغة العربية الفصحى، ويقطر بحرقة مواويل العراق شعرها الشعبي باللهجة المحكية أما وجهها القمري وجدائلها المدلات في أعماق النهرين فقد كانت تقطر عسلاً مصفى ممزوجاً بحمرة الحناء وخفر التلميذات في ذلك اللقاء. من دواوينها لو أنبأني العراف، يسمونه الحب أنا بدوي دمي، والبعد الأخير (1929 - 2021).
- حضرت من مصر أيضا الشاعرة عليا الجعار بقصائد عمودية عصماء.. يطل من جمال وجهها الجهوري المحاط بالحجاب ما في الشعر الخليلي من أعتداد، على طبع رقيق لا يخفيه صوتها الشعري القوي. من أعمالها أني أحب، غريب أنت يا قلبي وابنة الإسلام (1935 - 2003).
- حضرت الشاعرة فوزية السندي من البحرين وحضرت من الإمارات الشاعرة صالحة غباش والشاعرة كلثم عبدالله وحضرت الشاعرة جنة القريني من الكويت وحضرت الشاعرة روضة الحاج من السودان والشاعرة مريم أبو شقير من لبنان وشاعرات شابات أخريات كن للتو براعم متفتحات معظمهن من الخليج. وحضرتُ بدوري تلبية للدعوة كممثلة طليعية لقصيدة النثر من السعودية وكنتُ بالصدفة قد نشرتُ للتو ديواني الخامس (مرثية الماء) الذي كان عبارة عن قصيدة طويلة واحدة في كامل الديوان بعد فجيعتي قبلها بقليل بفقد شقيقي محمد شابا رحمه الله، فجاءت تلك القصيدة التي تعد من أطول القصائد في تاريخ قصيدة النثر وكأنها مضاهات تجديدية مستقلة لشعر الخنساء في رثاء أخيها صخر.
أما الشاعرة العمانية سعيدة خاطر صاحبة الدار فقد كانت ماسترو ذلك المهرجان الشعري الأول في عمان والخليج وكأنها تستعيد دور الخنساء في كرم الضيافة وفي العشق الشعري.
* * *
مضى ما ينيف على عشرين سنة اليوم من اليوم الذي كنتُ أقرأ في أمسياته الشعرية قصائدي وأنا بالكاد أمسك بريشها، وأقدامي ليست على الأرض وفساتيني التي كانت لا تزال من خياطة أمي ترف جذلا في الهواء على جسد لا يسعني. ومع ما لقيته من حفاوة كرائدة لقصيدة النثر في مهرجان الخنساء لدرجة أن نشرة اللقاء سمتني خنساء قصيدة النثر بعد قراءتي قصيدة مرثية الماء، إلا أنني كنتُ في نشوة لا يعلمها سوى الله بلقيا زميلاتي من الشاعرات خاصة وأعني خاصة تلك الباقة من الرائدات فدوى وملك وعليا ولميعة.
* * *
غير أن المفارقة الموجعة أن القدر ما لبث أن أعلى من إحساسي بالحظ للقاء أولئك الرائدات علوا عظيما.. وقد باغت الغروب ذات الضفيرة الذهبية الشاعرة ملك حفني في نفس السنة بعد بضعة أشهر من مهرجان الخنساء وما زالت حرارة قصائدها تسري في الشال القرمزي الذي أزاحته عن كتفيها وتركته هدية لي مع موظفة الاستقبال بالفندق. وازدادت فداحة إحساسي بقيمة الحظ الذي جمعني بشاعرات رائدات في حضرة الخنساء على أرض مسقط حين بعد أقل من أربعة أعوام على تاريخ اللقاء رحلت الشاعرتان فدوى طوقان وعلية الجعار في نفس العام. وكنتُ في وقت متقارب قد فقدتُ بكل الألم صديقتي المقربة الشاعرة السورية الرائعة أمل جراح (1945 - 2004)، وبعدها بقليل فقد ديوان الشعر الحديث في عزه رائدة شعر التفعيلة الشاعرة نازك الملائكة (1922 - 2007)، كما فقد في أوج اندلاعاته الشاعرة سنية صالح (1935 - 1985م).
وربما لكل ذلك حرصتُ على بقاء صلة وإن متقطعة بالزميلات مع قراءة ما استطعت من جديدهن الشعري إلى أن جرفت كل منا المشاغل اليومية وأحكام البُعاد.
* * *
غير أن وداع الشاعرة لميعة عمارة الأخير هذا الأسبوع 18 - 6- 2021 كان مفاجئا وصادما فبكيت من أعماقي وكأنني لم انقطع عن تلك اللميعة وشعرها لحظة واحدة منذ توقيت لقائنا الأول قبل عشرين عاماً في مهرجان الخنساء بمسقط أو وكأن ذلك اللقاء صار لحظة سرمدية لم أتوقع أن يكون لها نهاية وربما لن يكون...
فلم أشعر إلا ويدها الندية تهمي على كتفي وكتبي وتخر حبراً وناراً.
أطلتْ شاعرة الجمال من مرآتها التي نسيتها معي حين استعرتها منها في الحافلة على الطريق من مسقط إلى منطقة السقا بعمان وابتسمت، وكأننا تعمدنا سراً ذلك النسيان لئلا ننسى قط.
ستظلين الشاعرة لميعة عمارة كقصائدك روحا عصية على النسيان فـ{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
* * *
الشاعرة الشفيفة الشاهقة، النخلة الصفصافة، الصبارة الريحانة، المقمرة المعتمة، نشوة الفجر وشجن الغروب الصديقة لميعة عمارة طيبي نفسا في رحلتك إلى الخلود وتأكدي أن اللقاء بحضرة الخنساء لم يكن لقاء أول ولن يكون الأخير.
لميعة عمارة علقت قصائدها على نياط القلوب أهدت الشعر عيونه وزعت أقلامها ومروحة يدها وكهرمان كلماتها وبلور ضحكتها على عشاق الأرض وعمالها وأطفالها وجميلاتها ورحلت خفيفة كأجنحة حرة... إلى لقاء قريب بنتُ النهرين وبنتُ الغربة الشاعرة التي لم تغادر أرض العراق قط ولن تغادر.