الفاتحة
قال الإمام علي (ع): «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». وقال الحسن البصري (ض): «لولا ثلاثة ما طأطأ ابن آدم رأسه: الموت، والمرض، والفقر».
إنه الموت الذي نفر منه سيلاقينا، ولو كنا في بروج مشيدة، نتحاشى ذكره متناسين قوله -صلى عليه وسلم-: «اذكروا هادم اللذات».
إنه الحقيقة المطلقة المؤلمة الموجعة التي تدرك جميع الكائنات الحيّة بالانتقال من الحركة إلى السكون، من الدنيا إلى الآخرة. فقبل سنة فجعنا برحيل أم الجود والكرم، جامعة الأرحام الحاجة أم أحمد عبد الله علي القرقوش في سنة كورونية موجعة رحل فيها أحبابنا وإخوة لنا في الدين والوطن والإنسانية، سنة لا يغاث الناس فيها ولا يعصرون. سنة أبكت العالم بقضه وقضيضه، فوضعته على كف عفريت يغلي كغلي المرجل، يحاول جاهداً إيقاف النزيف البشري والاقتصادي، بل يحاول إيقاف موت الحياة بتباعد الإنسان عن أخيه الإنسان جسدياً مما فاقم من التباعد في المشاعر، والأحاسيس، والعواطف، والانفعالات.
فهيمة بنت صالح بن صالح بن حسن بن ناصر الحرز تزوجت قبل بلوغها الخامسة عشرة كعادتهم في ذلك الزمن عبد الله علي القرقوش - طيّب الله ثراه- فسكنت في فريج الرفعة الشمالية مجاورة لمنزل والدها -رحمه الله -. قبل 50 عاماً انتقلت إلى منزل اشتراه زوجها في حي الفاضلية، منزل شعبي مفتوح من أعلاه، فيه حوي تشرق وتغرب الشمس عليه، وتهب عليه رياح الصبا، فكان بحق أيقونة شارع الفاضلية ودرتها، مفتوح للجميع رجالاً ونساءً وأطفالاً. فيه يستقبل زوجها جيرانه ومعارفه وأهله مساء كل يوم بعد صلاة العشاء في مجلسه الصغير الذي لم تتجاوز مساحته 14 متراً، منهم الوجيه رجل الأعمال ياسين الغدير، وعمدة الفاضلية السيد حسين الأحمد الذي كان يقصده المحتاجون لإنهاء معاملاتهم فيه.
عاشت خالتي كريمة النفس، جوادة، مضياف لا يغلق بابها، تستقبل الناس ببشاشة في حوي منزلها الصحي في جميع الأوقات، في قُر الشتاء وزمهريره، وفي هجير الصيف وسُعاره غير مبالية بلهيبه وسمومه. ذلك الحوي الصحي الجميل الذي افتقدته منازلنا المصندقة منذ عقود في جلسة شعبية بسيطة بلا مكيفات، أو كنبات، أو كراسي، أو طاولات، ولا أثاث منمق، أو جدران مزركشة، ولا تلفزيون، أو جوالات تشغلهم عن السمر، وتبادل أطراف الحديث.
كان حوي منزلها ديوانية مفتوحة للجميع، القريب والبعيد، الصغير والكبير، لا يفتر عن استقبالهم حتى غدا عبق المكان ورائحته ولونه وطعمه!
كان بيتها ملتقى الأهل، والجيران، والأقارب، والمعارف ببساطة بدون مواعيد مضروبة، أو اتصالات منسقة بعيداً عن تعقيدات الحياة وصخبها. يتفاكهون ويرفهون عن أنفسهم، ويلتقون بقلوب صادقة، ونيات طاهرة.
عاشت بفطرتها بإيمان العجائز، محبة للخير، تعمل المعروف بصمت بدون من، أو أذى، أو إعلان عنه، أو خبر حتى فيما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي.
كانت اجتماعية من الدرجة الأولى، واصلة لأرحامها فقد شاهدتها يومياً تزور أمها في منزل أخيها وقت الضحى، ثم تعرج على جيرانها.
اتسمت بكاريزما، قيادية يعتمد عليها في إدارة الأمور، واثقة، تدلل نفسها وتكرمها، ذات فراسة وحدس، تقرأ أفكار من يجالسها سريعاً، مهما قست بكلامها فقسوتها عن حب سرعان ما ننساها. مدججةً بالأنفة والتواضع، لا ترضى بالخطأ، متحدثة بثقة لا يمل حديثها، تستشهد بكثير من القصص والحكايات، والأمثال الشعبية، ما في قلبها على لسانها، صريحة في الحق بلا مجاملة أو مداهنة، مستمعة جيدة لغيرها، صاحبة ذاكرة قوية اختزنت فهما صحيحاً للحياة، لم تدرس في مدرسة أو كُتَّاب لكنها تعلمت في مدرسة الحياة أكثر مما يتعلمه طالب الجامعة اليوم، فكانت بحق ذاكرة المكان والزمان، مجيدة في حفظ أرقام الهاتف والحساب، مدبرة منزل مجيدة، وطباخة ماهرة.
عانت في سنواتها الأخيرة من مشكلات صحية مجهدة منها عملية كسر فخذها، ومنعها عن الحركة، ومرض زوجها الدائم، وما كسر قلبها وغض مضجعها وفاة ابنتها الكبرى أم عادل.
ومن أصعب صروف الدهر على الإنسان أن يعجز، فيكون محتاجاً لرعاية الآخرين حتى في احتياجاته الخاصة، وخالتي قاست في فترة الحجر الصحي على الفاضلية الذي استمر 17 يوماً، فتدهورت صحتها، وبعد انتهائه انتقلت إلى منزل ابنتها أم أحمد الحسن متحسرة لفراق منزلها الأثير، ثم إلى منزل ابنها أحمد، ثم عادت إلى منزل أم أحمد الحسن، ثم نقلت بالإسعاف إلى مستشفى الملك فهد قضت فيه 8 أيام ممنوعة من زيارة أحبابها، ثم أسلمت الروح إلى بارئها يوم الأحد 14-11-1441 الموافق 5-7-2020 فشيّعت في جنازة بسيطة حسب الاحترازات الصحية الرسمية المفروضة بعيون دامعة، وقلوب باكية، وألسنة بالدعاء لاهجة.
يقال: إن الموتى لا يموتون إلا حين ننساهم، ونحن نضعف في غيابهم أكثر، نكون أكثر هشاشة، نحزن، نبكي، وما زال جرح غياب خالتي لم يندمل، ودموع روحي لم تكفكف، وقلبي لا يزال ينبض بحبها:
عام مضى ضاعت به أفراحنا
وتعتقت في كأسنا الآلام
بموتها أغلق بابها، وفقدنا أجمل القيم الإنسانية: الكرم والسخاء، واجتماع الأحبة بدون رسميات أو تكاليف، فمهلاً أيها الموت لأستوعب رحيلها، فقد أصبحت برحيلها يتيماً من جديد! ماتت أمي الثانية، فغدت الفاضلية موحشة مظلمة حين أدخلها! فأي باب سأطرقه فيها، فالبيوت تموت بموت أصحابها؟
يا طارق الباب رفقاً حين تطرقه
فإنه لم يعد في الدار أصحاب
تفرّقوا في دروب الأرض وانتثروا
كأنه لم يكن إنس وأحباب
ارحم يديك فما في الدار من أحد
لا ترج رداً فأهل الود قد راحوا
ولترحم الدار لا توقظ مواجعها
للدور روحٌ كما للناس أرواح
مهلاً أيها الموت، فأصعب اشتياق وأقساه أن نشتاق لأجساد غطاها التراب، ولأرواح بعدت عنا إلى رب الأرباب، فاستلطفوا بعضكم بعضاً وأنتم أحياء قبل الغياب؛ لأنكم لا تعلمون متى ستفارقونهم أو يفارقونكم، حينها تتمنون لو أنكم ما تركتموهم لحظة، فالموت لا يؤخّر أحداً ولا ينتظر، {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.
سنة انقضت، وانتهت على رحيلها فما زالت عيوننا تدمع، وقلوبنا تحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا أم أحمد لمحزونون:
عام على الفقد لا سلوان أو بدلُ
والحزن غض وها طعناته أسلُ
كتبت زوجتي حفيدتها أم عبد الإله ترثيها: «رحلت، ولم يرحل ذكراها، التحفت التراب. صوتها، ملامحها لا زالت حية في قلبي.
قبل أسبوعين من وفاتها استقبلتني بالبشاشة وودعتني بالدعاء، فيا رحمن يا رحيم ارحمها، واجمعني بها في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، على سرر متقابلين».
وبعبارات باكية دامية بكتها حفيدتها أم فتحي قائلة: «جدتي.. مرت سنة على رحيلك كانت أشبه بدهر! سنة لم أرك فيها، لم أسمع صوتك، لم أقبل رأسك. سنة استحضرت فيها أمنية مستحيلة: ليتهم لا يمرضون، لا يشيخون، لا يرحلون!
ما أوجع الفراق حين يفتح أبواب الماضي، ويشرع نوافذ الذكريات الجميلة التي كنتِ فيها قريبة من روحي ووجداني.
جدتي.. أحن إلى المكان الذي طالما كنت تجلسين فيه. أحن إلى صوتك يطرب مسامعي. أنت ملتقى الأحبة، القريب والبعيد.
وكتبت ابنتها المقصّرة كما وصفت نفسها أم أحمد الحسن: أدخل دارها، أتحسس مكانها الدائم، أترقب جلستها، ناسية أنها غادرتنا، فاكتشف أن المساحات مهجورة وباردة. أين الدفء الذي كان يملأ المكان؟ أين الصوت الذي طالما شنّف أذني؟
أحبك يا نبع العطاء. أنا عاجزة أن أجازيك، فجزاؤك عند رب العالمين.
وكتب ابنها أبو عبد الله سلمان:
آه.. آه.. ماذا عساني أن أقول عن أمي؟ هل تكفي السطور؟ هي عائلة، هي احتواء، هي فرحتي كلما عدت إلى موطني الأحساء حتى وإن غابت عن عيني وغطاها التراب. هي الكرم كله، محبة للجميع.
رحم الله أمي ومصباحي إذا حل الظلام. بدعوة من قلبها تنجلي همومي، وتضيء أيامي.
** **
- علي صالح الفهيد