لاشك أن الرحلات التي قام بها المستكشفون للجزيرة العربية كثيرة، وهي مهمّة رغم قلّة المعلومات في بعضها، أو وجود بعض المغالطات والأخطاء التي تكتنفها تلك الرحلات، وقد استُخلصت واستُلّت بعض المعلومات من تلك الرحلات فيما يخص بعض مناطق ومدُن شبه الجزيرة العربية، ومن بين تلك الرحلات رحلة البريطاني وليام بلجريف إلى الأحساء في (1279 - 1280هـ)، والتي تناولها الدكتور/ دايل بن علي الخالدي بالعرض والدراسة كبحثٍ مستقلٍ، نُشر في حوليات المؤرخ المصري بجامعة القاهرة عام 1436هـ.
فقد عرّف د. دايل بالرحالة بلجريف المولود عام 1826م ذي الأصول اليهودية والمعتنق للمسيحية بعدها، وأهداف رحلته التي يحدد رغبته - بلجريف - بأن الهدف هو الرغبة في الاستكشاف والملاحظة، مع دراسة سكّان الجزيرة العربية كعِرقٍ، مع دراسة أحوالهم الفكرية والسياسية والاجتماعية. وقد أعدّ بلجريف عدّته للرحلة من تغيير اسمه من (بلجريف) إلى (سليمان) بالإضافة إلى معرفته بمبادئ مهنة الطب والتي حمل معه صناديق مليئة بالعقاقير وبعدد من المراجع الطبية لمساعدته في إنجاز مهامه. وقد كان مسار رحلته من الأردن مروراً بالجوف - والتي استلّ د. صالح السنيدي ببحث مستقل منشور «بلجريف في الجوف» - وحائل والقصيم ثم الرياض والأحساء وبعدها إلى القطيف.
وقد صحب معه شخصاً أُردنياً ادّعى أنه مساعده وزوج أخته، وكذلك بقائد القافلة الذي عرّفه بأنه (أبو عيسى) ولم يذكر اسمه، وقد استضافه في الأحساء خلال إقامته فيها، وتجوّل معه في بعض معالمها كعين أم سبعة، وعين نجم وسوقَي الهفوف والمبرز وغيرها. والجميل في هذه الرحلة أن بلجريف يشير إلى محطات الطريق وذكر الأماكن بوصفٍ دقيق كقيام أبي عيسى بوضع أحجارٍ ضخمة، ووضعها في منتصف الطريق بصحراء الدهناء على شكل أهراماتٍ صغيرة يصل ارتفاعها 30 قدماً كعلامة للقوافل حتى عُرفت بـ(رجم أبي عيسى)، مما جعل الرحالة الذين أتوا بعده يثقون بوصفه الذي كتبه في رحلته.
وصف بلجريف الأحساء من الناحية السياسية والأمنية وأن من يسير بين الأحساء والقطيف بأنه آمنٌ تماماً، لقيام حكّام الدولة السعودية الثانية بتأمين الطُرق عبر القضاء على قطّاع الطُرق والنهّابين وأنه ليس لهم وجودٌ، وقد قدّم وصفاً للهفوف وأنها ذات شكل بيضاوي، ووَصَف حي الكوت بأنه عبارة عن قلعة ضخمة يحيط بها خندق عميق وأسوار وأبراج تتميز بالارتفاع والسماكة، ووصف بقية الأحياء كحي النعاثل وحيّ الرفعة الذي قال عن شوارعه إنها واسعة ونظيفة جداً لدرجة أنه فضّلها على نظيرتها في دمشق، حيث وصفها (وشوارع دمشق أو بريدة لا تصل إلى ربع هذا الاتّساع أو النظافة)، فهو حيٌ صحّي لتميزه بالأناقة وجمال بعض مساكنه.
وقد زار بلجريف المبرّز وتجوّل في سوقها وشوارعها، ووصف بقية مرافقها، ثم تحدث عن قريبة الكلابية، ووصف أسواق الأحساء وحالتها الاقتصادية والتجارية، وكذا عيون الأحساء التي قال عنها (أبو عيسى) بأنها تصل إلى قرابة 300 عين من كثرتها، وسلّط الضوء على النشاط الزراعي مُبدياً إعجابه بأنواع التمور والرطب لكثرتها وخصّ رطب الخلاص بإعجاب كبير، حتى قال عنه إنه (أفضل رطب الدنيا كلّها). ولا بد من رحّال كـ(بلجريف) أن يقتحم الحياة الاجتماعية ويوثّق ما يشد الانتباه، وهذا ما ميّز رحلته عن بقية الرحّالة، حيث يقول د. صالح السنيدي: (تميّز عن غيره من الرحالة والمستكشفين بالغوص في أعمال تلك المجتمعات التي زارها فاهتمّ بالجوانب الديموغرافية والأنثروبولوجية، بالإضافة إلى اهتمامه بالجوانب الطبوغرافية والتاريخية والسياسية). واستكمالاً لذلك، فإن بلجريف دوّن مرئياته حول ثقافة أهل الأحساء (المتيّمون بالأدب والشعر سواءً أكان عمودياً أم نبطياً) كما يقول. أما الناحية الدينية فكثير من الباحثين يجمعون أنه نقل الصورة الخطأ عن فهمه للإسلام، وقد أوضح مواقع ذلك الدكتور/ دايل، مفنّداً ما ذهب إليه بلجريف من أن أهل الأحساء والقطيف لم يعرفوا الإسلام إلا بعد أن دخلوا تحت الحكم السعودي!!، لأنه - بلجريف - دوّن رحلته ليقرأها أهل بلده والدول الأوروبية عموماً، وليس تدوينه ليقرأها أهل الأحساء، وهذا يكشف شيئاً من تعصّبه الديني وجهله عن الإسلام في الوقت ذاته.
وقد بذل الدكتور/ دايل، جهداً في تفصيل بعض المطالب وشرحها في هوامش وضعها لذلك، مدعماً ذلك بالمصادر، وبعض الصور ذات الصلة بهذه الرحلة.
** **
- عبدالله بن علي الرستم