مشاعل القاضي
يُقال إن ذكرياتنا هي ما تجعلنا على ما نحن عليه؛ فالذكريات هي ماضينا وحاضرنا وإحساسنا بأنفسنا، وأما الذاكرة فهي ليست سوى إشارة لعملية الترميز والتخزين والاسترجاع للأحداث والمعلومات في أدمغتنا.
نحن لا نختار ما نتذكر ومتى نتذكره، مثلما لا نختار كيف عشنا ماضينا وعلى أي حالٍ مضى. ذلك أن كلاً منّا يحمل في ذاكرته الكثير من الأحداث المؤلمة والمفرحة على حدٍ سواء، تطفح على سطح الذاكرة دون تحكمٍ منّا بفعل محفزّات خارجية كاستماعنا لأغنية يمرّ معها شريط ذكرياتنا واللحظات التي قضيناها على أنغامها في الماضي، أو استنشاقنا رائحة معينة تشعرنا بالحنين إلى بيتٍ قديم وصحبة تفرّقت، وحتى عندما نرى مشاهد خاطفة في الأماكن العامة فتعيدنا إلى أماكن كنا قد زرناها مع أناس لم يعد لهم وجود وآخرون ابتعدت بهم الدنيا.
تتبادر إلى الذهن الكثير من الأسئلة عن مدى أهمية هذه الذكريات، فهل أهميتها نسبية وتتفاوت من شخص إلى آخر؟ لمَ قد تعني الذكريات الكثير لشخصٍ ما بينما يدّعي الآخر أنه يعيش في الحاضر وأن الماضي ما هو الا لحظات عابرة انتهت بانقضاء فتراتها الزمنية؟
قد تكون الإجابة أيضاً نسبية؛ يُرى في علم النفس بأن الذاكرة على عكس ما يعتقد الكثيرون ليست بالضرورة قادرة على حفظ وتسجيل كل ما يرد عليها من أحداث ومواقف على مرّ السنوات، بل إن الكثير من الأحداث مخزَّنة في العقل الباطن وهي قابلة للاسترجاع بشكلٍ أو بآخر ولكن يصعب على البعض تذكّرها لوجودها في العُمق. والذاكرة غالباً ما تكون انتقائية وأحياناً ليست دقيقة وواضحة بشكلٍ كافٍ يسعفنا على تذكّر كل مررنا به؛ لذلك تختلف أهمية الذكريات ووضوحها بين الأشخاص وهو ما يجعلهم متفاوتين في تعلّقهم بالذكريات وبالماضي.
من ناحية أخرى؛ فإن الصدق الذي يُولد في اللحظة التي يعيشها الإنسان وإحساسه التام بها هو ما يجعل لتلك اللحظات أهمية بالغة في الذاكرة، فتتخذ مكاناً لها على السطح ليستدعيها الحنين في كل مرّة نتعرض فيها إلى ما يوقظ هذه الذاكرة لتتدفق صور الأشخاص وأصواتهم والأيام التي قضيناها معهم، بل وحتى روائحهم لنغرق في لحظة شعور صادقة بالحنين إلى الماضي.
لكن ماذا لو كنّا نحيا بلا ذاكرة ولا ماض، ألا يبدو الأمر مرعباً قليلاً! يقول أوسكار وايلد: إن الذكريات هي يومياتنا التي نحملها معنا أينما ذهبنا. فالذكريات هي الوقود الذي تُشحن به أرواحنا وطاقاتنا الفكرية لتعيننا على النمو والتقدّم والاستفادة من تجارب ودروس الحياة.
وحتى إن لم تكن ذكرياتنا تسعدنا ونتمنى لو نمحو جزءاً تعيساً منها؛ فإنها ومن دون شك تجنّبنا الوقوع في الكثير من الأخطاء والإخفاقات في المستقبل، بل إن الذاكرة هي ما يساعدنا على عملية التخيّل واستدعاء تفاصيل من الماضي لنرسم بها صورة ذهنية أقرب للواقع عما سيكون عليه شكل مستقبلنا.