عبدالرحمن الحبيب
يظهر لنا بطل الرواية كانديد يوجهه بانجلوس البروفيسور المتفائل بشأن العالم مُبرراً الوضع الراهن بأنه «كل شيء للأفضل» وفي «أفضل العوالم الممكنة».. في نهاية رحلاتهما التي أوقعت الكوارث عليهما، التقيا بمزارع عجوز يستنشق الهواء النقي حوله، فدعاهما إلى منزله حيث الطعام الجيد. قال كانديد للمزارع: «يجب أن يكون لديك عقار شاسع ورائع»؛ أجاب المزارع: «لدي عشرين فدانًا فقط»، «أنا وأولادي نزرعها؛ عملنا يحفظنا من ثلاثة شرور كبرى: الإنهاك، والرذيلة، والعوز».. كانديد والبروفيسور يعودان إلى مزرعة صغيرة، وعندما يبدأ البروفيسور بالتفلسف مرة أخرى حول كيف أن «كل شيء للأفضل» في «أفضل العوالم الممكنة»، أجابه كانديد، «كل هذا حسن جدًا، ولكن دعنا نزرع حديقتنا».. (عن رواية المفكر فولتير).
تلك الفقرة ساقها مقال يعترض على مقال «الزراعة الكبرى هي الأفضل» الذي يؤيد نمط الزراعة التكنولوجية الحديثة ذات الحجم الضخم لزيادة كفاءة العمل والموارد في نظام الغذاء من أجل إنتاج المزيد من الطعام بأرض أقل، وعمالة أقل، وتأثير بيئي أقل لمواجهة الأزمات الاجتماعية البيئية المتتالية المتعددة.. المقال المعارض يتبنى حكمة كانديد بأنه من الضروري الابتعاد عن الحجج المجردة أحادية الثقافة التي تقترح العمل كالمعتاد كأفضل ممارسة للجميع، ويطرح بديلاً لها بالإجراءات العملية في زراعات أكثر تناغمًا مع المجتمع والبيئة تحترم الحدود البيئية والبشرية على حد سواء.. حان الوقت لتقليص الزراعات الضخمة وتعزيز قدرتنا على الصمود في وجه الاضطرابات القادمة.. سنحتاج إلى زراعات جديدة وسياسات جديدة.. دعونا نزرع حدائقنا، يقول المقال.
المقالان المتضادان تم تناول حججهما الأسبوع الماضي، وهنا نضيف اقتراح المقال المعارض للزراعة الكبرى باستبدالها بمشروع قانون على مدى خمسين عاماً بأمريكا، عبر تعزز تنويع النظام البيئي بتقليل مساحة محاصيل الحبوب الحولية من 70 في المائة إلى 10 في المائة وزيادة المحاصيل المعمرة إلى 80 في المائة، مع تخصيص 10 في المائة لمحاصيل أخرى بما فيها الخضار والفواكه المنتجة محليًا. يمكن للأصناف المعمرة التي تحافظ على التربة والمياه من الأرز والقمح والبقوليات ومحاصيل الحبوب الغذائية الأخرى - التي يجري تطويرها الآن - أن تكون بمثابة مكونات لمجتمعات متنوعة ومتعددة من المحاصيل الغذائية التي تعيد نفس عمل الطبيعة.. سيعزز مشروع القانون الانتقال إلى حيازات زراعية أصغر وأكثر تنوعًا لأن التنويع الزراعي سيعمل بشكل أكثر فاعلية ليس على مساحات شاسعة وموحدة ولكن كفسيفساء مكونة من العديد من المزارع ذات الحجم المتواضع (ماثيو آر ساندرسون وستان كوكس، جامعة ولاية كانساس).
صاحبا المقال الأول المؤيد لنمط الزراعة التكنولوجية الحديثة عادا من جديد بمقال آخر قبل أسبوعين للرد بعنوان «لا تتخلى عن الزراعة الكبرى، بل اجعلها تعمل بشكل أفضل» معتبرين أن المزارع الصغيرة تلوث البيئة أكثر (تيد نوردهاوس ودان بلوستاين ريجتو، معهد بريكثرو للبيئة بكاليفورنيا).. يقولان في المقدمة: «يمكن أن يُعذر القارئ على استنتاج ماثيو آر ساندرسون وستان كوكس من انتقادات لمقالنا الأخير، «الزراعة الكبرى هي الأفضل»، بزعمهما أن جميع التأثيرات البيئية تقريبًا المرتبطة بإنتاج الغذاء يمكن إرجاعها لـ«الزراعة الصناعية». لكنها خدعة تعريفية بارعة، وليست «دليلًا تجريبيًا»، كما يزعمان.. يعرّف ساندرسون وكوكس «الزراعة الصناعية» بشكل واسع بحيث تكون مرادفة في الأساس لـ»الزراعة» بالمجمل».
يرتكز المقال الأخير على أنه لا يوجد غداء مجاني، فلا مفر من الآثار البيئية للزراعة لأنها تتطلب تحويل الغابات والأراضي العشبية والنظم البيئية الأخرى إلى حقول يتم استثمار قدرتها البيولوجية لإنتاج الغذاء للناس.. هذا ليس له علاقة تذكر بانتشار الزراعة الصناعية مقابل الزراعة غير الصناعية بل يعكس الحقائق الأساسية المرتبطة بتوسيع نطاق الزراعة على مستوى العالم لتلبية الطلبات الجديدة الهائلة لإطعام العالم، بينما تحويل الإنتاج إلى الممارسات العضوية لن يغير الوضع كثيرًا لأنه يتطلب المزيد من الأراضي ومن ثم ظهور تأثيرات بيئة مماثلة أو حتى أكبر على الممرات المائية والتنوع البيولوجي. أما الزعم بالتأثيرات الاجتماعية للزراعة الصناعية فكما لاحظنا في مقالنا السابق، كان هجرة السكان من الريف سببًا لدعم الزراعة الأمريكية وتصنيعها أكثر من كونها نتيجة لتلك الممارسات الزراعية. علاوة على ذلك، وجدت معظم الدراسات أن الإنتاج الحيواني الصناعي أقل كثافة في إطلاق غازات الاحتباس الحراري من أنظمة الإنتاج البديلة.
ويذكر المقال أن ساندرسون وكوكس يدعيان بأن الزراعة الصناعية مسؤولة عن تلوث الهواء بالهند، صحيح أن الزراعة مساهمة في رداءة جودة الهواء بالمدن الهندية لكنه بسبب صغار المزارعين الذين يحرقون حقولهم بعد الحصاد لعدم قدرتهم على شراء الآلات بدلاً من حرق مخلفات المحاصيل.. وهما يدعيان أن الزراعة الصناعية مسؤولة عن زيادة إزالة الغابات الاستوائية في البرازيل.. في الواقع، انخفضت معدلات إزالة الغابات في البرازيل بشكل كبير منذ مطلع القرن بفضل قوانين الغابات القوية والزراعات الكبرى الأكثر كثافة وتكنولوجية. أما الزيادة الحادة في إزالة الغابات بالمنطقة في السنوات الأخيرة فهي مدفوعة بشكل أكبر بالمزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة ومربي الماشية الذين يفتقرون لأنماط الزراعة التكنولوجية الحديثة، بينما الشركات الكبيرة المتعددة الجنسية أكثر استجابة للمسؤولية الاجتماعية لأنها أسهل في الاستهداف والضغط والتنظيمات البيئية ومضطرة لاتباعها.