عبد الرحمن بن محمد السدحان
* سُئلتُ مرةً أن أطرح تصوّرًا عاقلاً لمفهوم (حرية الكتابة)، فأجبت إجابةً طويلة أقتبس منها ما يلي:
أ) يُطرح هذا السؤالُ بين الحين والآخر في المجالس وبعض منابر الصحف، ويتراكم حوله خلافٌ واختلافٌ متعدِّد الرؤية والغاية. فهناك من يعتقد بوجود خطوط حمراء وشبه حمراء تحدّ من حرية الكاتب، وهذا قريب من الحقيقة في غير مكان أو زمان.
***
ب) وهناك من يرى أن الأمر نسبيُّ القياس، بمعنى أن حرية التعبير تخضع لثوابتَ ومتغيرات الحكم والتقييم من قبل المرء أو ذاك، سواءً كان كاتبًا أم قارئًا أم مسئول تحرير أو مسئول الرقابة الرسمية أو المجتمع بجماعاته وأفراده.
***
ج) لكنني أزعم أن هناك حقيقة لا خلاف حولها، وهي أنه لا توجد (حرية مطلقة) في معظم أرجاء العالم الحضاري، ناهيك أن الحرية المطلقة ليست مطلبًا لمن يدّعي أنه حر مكلّف وعاقل بل لا بد أن يكون هناك قدرٌ معقول من التقنين لها، عبر سلطة الدولة وسلطة المجتمع وسلطة القِيم والأخلاق والأعراف، وفوق هذا، سلطة المعتقد! وأي مفهوم آخر لحرية التعبير هو دعوةٌ مفتوحةٌ لمصادرة الحرية وسحب البسَاط من تحت أقدام المتفيئين بظلّها! لماذا؟ لأن الحرية المطلقة تعني الشقاق بين أغراض وغايات قد يتعذر التوفيق بينها!
***
د) من جهة أخرى أعتقد مخلصًا أن هامش الحرية في المشهد الثقافي في بلادنا الغالية موجودٌ بقدر يلائم خصوصيتنا الدينية والاجتماعية، ولم أشعر في يوم من الأيام خلال مسيرتي مع الحرف أنّ هناك جدارًا حديديًا يمنعني من التعبير عن فكرة قابلة للطرح بما يفيد الناس، فالحرية الصحفية عندي، مثل السلطة، تؤخذ في معظم المواقف ولا تُعْطى، ورئيس التحرير يستطيع على نحو أو آخر أن يكيّف هذا الأمر (برغماتيًا) فيُهمّش مساحة التعبير بالقدر الذي يجنّبه شرارة الاصطدام مع مصدر الضوابط. وقد (يبالغُ) رئيس التحرير في ممارسة (سلطة التهميش) هذه إلى حد مصادرة حرية التعبير في مطبوعته، وتنسحب هي إلى الظلّ طوعًا أو كرهًا.
***
هـ) والمهنة الصحفية في التحليل الأخير (عملية إبداعية) قبل أن تكون مهنةً محفوفةً بالمتاعب. ويراودني هاجسٌ بأن مصدر الرقابة قد لا يكون السلطة الرسمية في كل الأحوال، بل قد تُمارس من لدن رئيس التحرير أو من قد يفوّضه بذلك في (غرفة القيادة) للمطبوعة، وقد تكون أحيانًا من لدن الكاتب نفسه خوفًا أو جزعًا حين (يغلُوا) في توجّسِ الحذر فيما يكتب، فيحرم نفسَه فرصة الإبداع، ويحرم قراءَه فرصة الاستمتاع بذلك!
***
و) أخيرًا، أزعم بيقين ثابت أن حكومتنا الرشيدة- أيدها الله- لا تمنعُ طرحَ الآراء المفيدة، وأن يُمارس النقدُ بأسلوب أخلاقي وحضاريّ يقوم على معادلة الصدق أولاً، والرغبة المخلصة في الإصلاح ثانيًا، ثم تقصّي الحقائق ثالثًا دون غلو في التأميل ولا هوىً مخلّ في التفسير بما يفسدُ المعنَى!
***
* وبمعنى أدقّ، المجال رحْبٌ للنقد البنَّاء، والدعوة الصادقة للإصلاح حقّ مشاعٌ لمنْ استطاع إليه سبيلاً!