الموت بابٌ وكلُ الناس وارده، وما من حي إلا سيفنى ويبقى بين الأنام ذكرُه، فطوبى لمن كانت سيرتُه محمودةً وحياته بالخير ممدودةً، والدعاء له باقٍ بين محبيه وذاكريه.
إن موت أهل العلم والقرآن، وفقدَ أهلِ الخير والبذلِ والكرمِ والإحسانِ ثلمةٌ ومصيبة. فهم نورٌ بين الناس ومثالٌ حيٌ يذكرهم بالسلف الصالح وأهل المعروف والفلاح، ويبعثُ فيهم داعيَ الخيرِ والبذل ويدلهم على ما يقربهم من ربهم ويحذرهم مما فيه ضررٌ عليهم وخطرٌ في حياتهم، قال أيوب السختياني رحمه الله: «إني أُخْبَرُ بموت الرجل من أهل السنة، فكأني أفقد بعض أعضائي». ولكن كل مصيبة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جلل.
ولما مات الصحابي أو الصحابية التي كانت تَقُمُّ المسجد رضي الله عنها، ففقدها الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، فقالوا: مات، فقال: ((أفلا كنتم آذنتموني به دلوني على قبره أو قال قبرها فأتى قبرها فصلى عليها)).
فهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم مع أهل الخير والإحسان من صحابته البررة الكرام رضي الله عنهم، في مواقفَ كثيرةٍ محفوظة.
ومن هؤلاء الخمسة الذي جمع صفات كثيرةً معالي العم الوالد الشيخ ناصر بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالعزيز بن إبراهيم بن حمد الشثري، رحمه الله ورفع درجته وأنزله الفردوس الأعلى من الجنة وعوضنا وأهله وذريته ومحبيه في فقده خيراً.
فقد توفاه الله ليلة الجمعة غرة شهر ذي القعدة من هذا العام عام اثنين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية، بعد مرضٍ أقعده طويلاً، وكان صابراً محتسباً مضرب مثل في ذلك.
نشأ الشيخ رحمه الله في أسرة علمٍ، فقد كان جد والده الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم رحمه الله طالبَ علم مبرزاً، توفي ولماَّ يبلغ الثلاثين من عمره وهو راجع من الحج في شهر محرم عام 1271هـ، ولم يخلّف إلا ابناً واحداً وهو محمد، ومن ذريته والد الشيخ ناصر وهو الزاهد العابد المصلح الكبير العالم الشيخ عبدالعزيز بن محمد المكنى بـ(أبي حبيب)، رحمه الله وغفر له وأعلى منزلته المتوفى في شهر رمضان 1387هـ، وقد قرأ الشيخُ ناصر على والده وتعلم عليه، حتى حصّل علماً غزيراً ومعارفَ متنوعة، وكان الشيخ عبدالعزيز رحمه الله لا يسمح للطالب أن يبدأ بالدراسة عنده حتى يتمَّ حفظ القرآن، فأتمَّ الشيخ ناصر حفظ القرآن ثم درس على والده الشيخ عبدالعزيز، وبعد أن بلغ في العلم مبلغاً يؤهله للتدريس، جلس للتعليم، فكان مع والده رحمهما الله، وذكر شيخنا العالم الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين رحمه الله أنه درس على الشيخ ناصر رحمه الله واستفاد منه كاستفادته من أبيه، وهذا يدل على علو كعب الشيخ ناصر في العلم.
وقد تخرج في كلية اللغة العربية، ثم درَّس في المعاهد العلمية، ثم أصبح مديراً للشؤون الدينية في الحرس الوطني لسنوات، وهو الذي أسس الإدارة في أول أمرها، ثم انتهى به الأمر مستشاراً في الديوان الملكي منذ عام 1402هـ إلى وفاته رحمه الله.
وقد تميز الشيخ رحمه الله بحفظه للقرآن، وحمله للعلم، وهو يقرظ الشعر العربي الفصيح والشعبي النبطي، حافظاً لكثير من الشعر متمثلاً له، عارفاً بالتاريخ مستحضراً لكثير من المواقف والأخبار.
وأما في حياته وعبادته وعلاقته بالآخرين من ولاة وعلماء ومسؤولين وقرابات وعموم الناس، فهو الفارس الذي لا يشق له غبار ويعد من نوادر الزمان.
فقد عاش كريمَ النفس طيبَ البال حسنَ المعشر، يألفه من لقيه، ويأنس به من جلس إليه، ويحبه من قابله، وفي الحديث الحسن: ((المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس)).
لا يفرق بين صغير وكبير في التعامل، فيرحم الصغيرَ ويقضي له حاجته وسؤاله، ويوقر الكبير ويعرف له منزلته وقدره، يصدق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((أي الناس أفضل، قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب، قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)) رواه ابن ماجه.
فقلبه سليم على الناس، حتى وإن جفوه، لا يرضى بالكلام في أحد بسوء، ولا يسمح لأحد أن يتكلم بكلامٍ يُغير قلبه على أحد بما يكره.
يسأل كلَّ من زاره عن اسمه وعمله أو دراسته إن كان دارساً وعن حاله وحال أهله، ثم يبادر بتقديم الشفاعة قبل أن يسأل الزائر، فقد رزقه الله فراسة وذكاء يعرف به حال زائره، وقد زرته مرة للسلام عليه، وصادف ذلك وقت التخرج من الكلية، فبادر رحمه الله بطلب الاتصال بأحد المسؤولين، وقال: تمرني غداً للاتصال به، فشكرته واعتذرت منه رحمه الله بأني لا أحتاج إلى الاتصال به في ذلك الوقت، ولو احتجتُ فلن يدخر وسعاً، وكنت أظن أن حاله هذا معي خاصة، ثم تبين لي أن هذا مع جميع من يزوره ويقصده، فانظر كيف أنه هو من يبادر بطلب الشفاعة قبل أن يسألها طالبها بل يلح في ذلك، وهذا لأنه رحمه الله يقصد ما عند الله لا يبالي بمدحٍ أو ثناءٍ من المشفوع.
وكان رحمه الله لا يأنف من كثرة الاتصال على المسؤول، فقد اتصل على أحد المسؤولين ثلاث مرات في موضوع واحد تلبية لطلب من طلب منه ذلك، حتى تحقق ما شفع فيه، وفرح هذا الشخص بتحقيق مطلوبه، بل إنه رحمه الله لا يرد طلب الطالب حتى وإن كان شاباً في مقتبل العمر، جاءه شخص بعد تخرجه من الثانوية، وطلب شفاعته رحمه الله في قبوله في إحدى الكليات، فركب معه هذا الشابُ في سيارته وذهب مع الشيخ إلى الديوان الملكي وجلس مع الشيخ يوماً أو يومين حتى تم قبوله، ولم يسأل أين والده ولماذا لم يتصل بي، وهكذا حاله مع الكثيرين، وقد رزق الله الشيخ قبولاً عند الولاة والمسؤولين، فأكرموا طلبه وأجابوا سؤاله، جزاهم الله خيراً. ومن الأعمال الجليلة التي كان الشيخ يقوم بها رحمه الله، مساعيه في الصلح بين الناس وإصلاح ذات بينهم، وهذا من أفضل الأعمال عند الله، أخرج أحمد وأبو دواد عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة)). فكان رحمه الله يبادر في السعي في الصلح إذا علم بوجود مخاصمةٍ أو نزاعٍ بين الأقارب أو غيرهم، ومن ذلك تكليفه من ولاة الأمر للشفاعة في الصلح بين القبائل، والصلح في الدماء، وكم أجرى الله على يديه من الأجور العظيمة، وهذا أمرٌ مشهورٌ عن الشيخ رحمه الله.
** **
د. زيد بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الشثري - عضو هيئة التدريس في المعهد العالي للقضاء