د.فيصل بن عبدالله السويدي
إن نجاح المنظمات يعزى بالدرجة الأولى إلى كاريزما القائد وقدرته الخلاقة في إلهام الكوادر البشرية، لتقديم أفضل ما لديهم من الطاقات الإبداعية؛ لتحقق تلكم المنظمات ميزة تنافسية تتفوق بها على منافسيها، من أجل ذلك حاولت جاهداً عقد مقارنة بين رمزين من رموز القيادة، أحدهما كان وزيراً ثم سفيراً وهو غازي القصيبي، والآخر يعتبر أفضل قائد أعمال أنجبته أمريكا، ألا وهو جاك ويلش، وقد انتقيت هاتين الشخصيتين لعدة أسباب، أولها: أنهما حققا نجاحاً باهراً في تجربتيهما القيادية، فغازي القصيبي وضع بصمة مميزة في الإنجازات التي حققها إبان توليه وزارة الكهرباء والصناعة ووزارة الصحة، وجاك ويلش أنجحُ رئيس تنفيذي لشركة جنرال الإلكتريك، ولُقب بقائد القرن، ثانياً: ملكا الشجاعة في تدوين تجربتيهما القيادية، فغازي القصيبي دوّنها في كتابه المعروف (حياة في الإدارة) وجاك ويلش له كتابان هما كتاب (الفوز) وكتاب (مبادئ القيادة الأربعة). وهذا الإنتاج العلمي أتاح لنا تتبع أهم مقومات النجاح لديهما. ثالثاً: أحدهما يمثل القطاع الحكومي، والآخر يمثل القطاع الخاص، لذا حاولت أن أقدم قراءة تحليلية لتجربتين يستفيد منهما القائد الناشئ في القطاع الخاص والقائد الناشئ في القطاع الحكومي، كاشفاً بذلك مواطن الاتفاق والاختلاف بين هاتين التجربتين.
إن من يتتبع مقومات النجاح في تجربة غازي القصيبي وجاك ويلش القيادية يجد أنهما اتفقا على عداوة البيروقراطية للتطور الإداري والتميز المؤسسي؛ لذلك عملا حثيثاً لتقويضها من جذورها وإحلال التكنوقراطية والديناميكية مكانها، وبعد هذا وذاك ركزا على انتقاء الكوادر البشرية وتطويرها، وتقديم الحوافز المادية والمعنوية لها، وكان ذلك عبر مراحل أهمها: مهارة التوظيف، ومهارة إدارة الموظفين، ومهارة صناعة القرار، وتوطيد العلاقة مع القيادات العليا، وقيادة التغيير، وسنأتي للحديث عنها بالتفصيل.
مهارة التوظيف
اعتمد غازي القصيبي على الموضوعية والحيادية في انتقاء الصفوة لتقليدهم المناصب العليا، وابتعد عن الاعتبارات الشخصية والأهواء الذاتية، وهذه استراتيجية لديه تنطلق من أعلى الهرم الوظيفي وحتى أسفله، فالكفاءة وحدها في أداء العمل هي سيدة الموقف وله مقولة شهيرة سطرها قائلاً: «لا شيء يقتل الكفاءة الإدارية مثل تحول أصحاب الشلة إلى زملاء عمل»، بيد أن جاك ويلش وضع عدة معايير يقيس بها مدى أهلية الموظف للوظيفة بداية بالأمانة، ثم الذكاء، ونهاية بقياس النضج وهو قدرة الموظف على فهم ذاته وقيادتها، وإدارة علاقاته الاجتماعية.
مهارة إدارة الموظفين
تبنى غازي القصيبي في إدارته للموظفين أسلوب القيادة الموقفية، وهو من الأساليب العصرية الأكثر انتشاراً على نطاق المنظمات، والأسهل تطبيقاً فاعتمد على الآتي:
أولاً: التفويض، حيث فوّض غازي القصيبي أعمال الوزارة للوكلاء كلٌّ بحسب اختصاصه، فوكيل مسؤول عن الشؤون المالية والإدارية، ووكيل لشؤون الكهرباء، ووكيل للشؤون الصناعية، ثم حدد لهم المهام ومنحهم صلاحية اتخاذ القرار وأعطاهم درجة عالية من الثقة.
ثانياً: التوجيه، فتح غازي القصيبي قنوات تواصل مع الموظفين من أجل الإشراف عليهم وتوجيههم في أداء المهام المنوطة بهم، مثل مشاركته فرق الصيانة المعنية بإصلاح الأعطال في الأحياء، كذلك مشاركته موظفي السنترال في تلقي الشكاوى الهاتفية.
ثالثاً: تشجيع الموظفين على التفاني والإخلاص في أداء مهامهم، حيث ملك غازي القصيبي كاريزما التأثير التي خلقت لدى الموظفين احترام العمل، وتأديته بكل كفاءة واقتدار، فمن صور التشجيع: الترقيات فكان كل موظف يستكمل شروط الترقية يحصل عليها تلقائياً، إرسال بطاقات التهنئة أو المواساة للموظفين.
أما جاك ويلش فقد رسّخ سياسة التمييز، حيث شدد على ذلك قائلاً: (جوهر التمييز بين الموظفين هو المبالغة في مكافأة أفضل الموظفين، والتخلص من الموظفين غير الفاعلين، والتمييز الشديد يولد نجوماً متميزين بحق والنجوم هم من يبنون المشاريع العظيمة). وتنطلق سياسة التمييز من تقييم الموظفين بناء على مؤشرات عادلة تقيس مستوى أدائهم الوظيفي ثم تصنيفهم إلى ثلاث شرائح بناء على نتائج التقييم السنوي 20 % الشريحة العليا، و70 % الشريحة الوسطى، و10 % الشريحة السفلى، ثم ينقل هذا التصنيف إلى حيز التنفيذ من حيث الثواب والعقاب للموظفين فأصحاب الشريحة العليا نصيبهم المكافآت المادية والإطراء والتقدير، والشريحة الوسطى تمثل الغالبية العظمى من الموظفين، التي تعتمد عليها الشركة دون الاستغناء عن مهاراتهم وطاقتهم، فهؤلاء نصيبهم التدريب والتغذية الراجعة وتكليفهم بالأعمال والمهام للارتقاء بمهاراتهم، وأما الشريحة السفلى، فلم يتوان جاك ويلش في فصلهم فهم بالنسبة له وبال وعبء على المنظمة، فبسياسة التمييز ينجح القائد في تحقيق العدالة والشفافية والصراحة بين موظفيه، ويرتقي بالأداء لديهم فالكل يريد النجاة من الشريحة السفلى فقد كان حازماً في قضية الفصل حتى حكى عن نفسه أنه لقب باجاك النيوتروني مشتق من القنبلة النيوترونية التي تقتل البشر ولا تدمر المباني.
مهارة صناعة القرار
وهي من المهارات التي تميز بها كل من غازي القصيبي وجاك ويلش في تجربتيهما القيادية، فغازي القصيبي امتلك عقلاً نيراً قاده نحو معرفة القرار الصحيح من القرار الخاطئ، وتمتع بنفس شجاعة في اتخاذ القرار الصائب، فهناك بعض القادة يدرك من واقع حصافة فكره، ونضج تجربته صواب القرار، ولكنه يقبع في ظلمة الإدراج خوفاً من اتخاذه.
وأخيراً تميز بمهارة تنفيذ القرار، وهي الوسيلة التي يُنقلُ فيها القرار لحيز التنفيذ. بينما جاك ويلش كانت قراراته تتصف أولاً: بالمصداقية، فعندما يتخذ قراراً يكون مؤمناً به كامل الإيمان بأنه يصب في صالح الموظفين والمنظمة، وليس هناك حظوظ نفس من ورائه أو كسب رضا فئة من الموظفين على حساب فئة أخرى. ثانياً: القدرة الفذة على استشراف المستقبل، حيث يملك جاك ويلش حاسة سادسة في توقع أحداث مستقبليه لا يمكن تخيلها، لذا كان لقراراته أثرٌ بالغٌ في تفوق شركة جنرال إلكتريك وتميزها على منافسيها. ثالثاً: المشورة قبل اتخاذ القرار، فكان جاك ويلش يحيط نفسه بأفراد من أذكى العاملين معه في شركة جنرال إلكتريك، ويعقد اجتماعاً طارئاً معهم ويتباحثون تشخيص الأزمة والحلول الافتراضية، ويستلهم منهم النصائح والتوجيهات وبناء على ذلك يتخذ القرار.
هناك مهارتان مختلفتان ولكن تبقى عاملان بارزان في نجاح تجربتيهما القيادية الأولى تميز بها غازي القصيبي، وهي قدرته على توطيد علاقته مع القيادات العليا، وقد كان لذلك دور في دعمه اللامحدود في تحقيق أفكاره ومشاريعه التنموية التي كان يطمع لتحقيقها، وهناك مواقف كثيرة فعندما تقلد منصب وزير الصناعة والكهرباء ووزارة الصحة حكى عن نفسه أنه لولا الله، ثم الحظوة التي نالها لدى القيادة السياسية لما حقق كثيراً من أفكاره وطموحاته، حيث أدرك غازي القصيبي حرص ولاة الأمر -آنذاك- على بناء الوطن، ودعم كل ما يكفل خدمة المواطن ويحقق له الراحة والسعادة والاطمئنان، وقد كان لاهتمام القيادة الرشيدة الأثر البالغ في انتقال تلك الرؤى والأحلام إلى عالم الوجود. أما جاك ويلش فنجد أنه نجح في إدارة التغيير التي نفذها بكل كفاءة واقتدار، ويعزى ذلك إلى، أولاً: ربط التغيير بالرؤية والأهداف التي تبناها لشركة جنرال الكتريك ثانياً: دعم الموظفين المؤيدين للتغيير بالحوافز المادية والمعنوية. ثالثاً: فصل الموظفين المخالفين للتغيير، وأخيراً: اغتنم الفرص الداعمة للتغيير.
ختاماً
بعد الانتهاء من استعراض أهم مقومات النجاح يعنُ في ذهن القارئ تساؤلٌ وجيه، ألا وهو.. ما المنجزات التي حققها كل من غازي القصيبي وجاك ويلش، لتجعل منهما رمزين خالدين في عالم القيادة؟
والإجابة تنحصر في النتائج التي تحققت بعد تركهما المحيط الوظيفي، فعلى سبيل المثال جاك ويلش عندما تقاعد من منصب الرئيس التنفيذي لشركة جنرال الكتريك الذي كان يشغله في فترة ما بين 1981م وحتى عام 2001م. خلال هذه الفترة قفزت القيمة السوقية للشركة من 12 ملياراً إلى 280 ملياراً، وخلال تلك الفترة ارتفعت قيمة أسهم الشركة بنسبة 4000 %؛ مما مكن لشركة جنرال إليكتريك من الاستحواذ على المئات من الشركات الناشئة، وأصبح شعارها التنوع في الإنتاج والتميز في المنتج، أما غازي القصيبي فأهم إنجازاته في وزارة الكهرباء والصناعة هو إنشاء شركة سابك، وهي شركة وطنية صناعية متخصصة في البتروكيماويات وتحويلها إلى شركة مساهمة ووضع أنظمتها والهياكل التنظيمية للشركة، كما أنشأ المدن الصناعية في الرياض والدمام، أما وزارة الصحة وضع آلية التراخيص للمستشفيات الخاصة من أجل تخفيف العبء على المشافي الحكومية، وحدد إجراءات التدرج الطبي للمرضى من إنشاء مراكز الرعاية الأولية في جميع الأحياء السكنية لمعالجة الأعراض الطفيفة كالصداع أو التطعيم، ثم إحالة المريض إلى مشفى عام إن كانت حالته تستدعي ذلك، ثم إلى مشفى متخصص إن تفاقمت حالة المريض هذه هي المنجزات باختصار، لكن ما أود التأكيد عليه في الختام أن الاهتمام بالموارد البشرية هو الذي يمنح المنظمة قيمة مضافة وميزة تنافسية ولا شيء سوى ذلك.
** **
- أكاديمي متخصص في القيادة والجودة والتميز المؤسسي