الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
الإسلام دين العدل والإنصاف، والأدلة من الكتاب والسنة كثيرة على تطبيق المنهج الإسلامي الصحيح، ومن ذلك الحث على كتابة العقود وتوثيقها بمختلف أنواعها، وفي هذا الزمان كثرت المشكلات والقضايا في المحاكم جراء تهاون الناس في التوثيق، مع خراب ذمم الكثير، حيث افتقدت المصداقية والأمانة، مما يوجب التوكيد على كتابة العقود وتوثيقها لكي تمنح العقد قيمة قانونية في حالة الاختلاف والنزاع.
«الجزيرة» التقت مع مجموعة من المختصين القانونيين، ليتحدثوا حول السبل الكفيلة لتوعية الناس في حفظ حقوقهم ومصالحهم، وتعزيز القيم الأخلاقية التي تساهل بعض الناس بها اعتماداً على الثقة وحسن الظن؛ فماذا قالوا؟
كتابة العقود وتوثيقها
يقول الدكتور عادل العزيزي مختص في قوانين الشركات المساهمة أن مجتمعنا يواجه مشكلات اجتماعية ويعود سبب ذلك إلى اختلافهم في المعاملات المشتركة بينهم، فقد يختلفون لعدم كتابة وتوثيق الشروط التي اتفقوا عليهم وقد بينت الشريعة الإسلامية ضرورة توثيق العقود لذا تعتبر العقود وتوثيقها من أهم مصادر الالتزام في تعاملاتنا اليومية سواء بين أفراد المجتمع فيما بينهم وبين بعض أو بين أفراد المجتمع ومؤسساته العامة أو الخاصة أو بين مؤسسات المجتمع العامة والخاصة فيما بينها، لذا ينبغي على الفرد منا العلم والمعرفة بشروط العقود التي يبرمها والالتزامات والآثار المترتبة عليها نظراً لأن الفرد منا يبرم العديد من العقود في حياته اليومية (دون وعي منه بأهميتها والآثار المترتبة عليها)، وهناك العديد من الآيات القرآنية الدالة على أهمية العقود وتوثيقها قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم)، وتظهر أهمية العقود وتوثيقها في حفظ حقوق الناس ومصالحهم وعدم السماح بالاعتداء على الآخرين وأكل الأموال بالباطل، كما يهدف توثيق العقود إلى تنظيم المعاملات بين الناس ويجعل الجميع أكثر التزاماً، ويشعر الناس بالطمأنينة تجاه الآخرين ويمنع التوثيق استغلال الناس الضعفاء، ويمنع وقوع المنازعات بين الناس بعد وفاة أصحاب الأموال، كما يسهل على القاضي في حال نشوب نزاع بين أطرافه الرجوع إلى أحكامه وشروطه وتفسيرها فيما يتفق مع الشرع والنظام والحكم بموجبهما.
ويؤكد الدكتور العزيزي على أنه ينبغي على الفرد في مجتمعنا التركيز على حسن صياغة العقود، ويجب أن يراعى في صياغة العقود أمور عدة من أهمها: مقدمة العقد، بحيث تشتمل المقدمة على تاريخ إنشاء العقد، وأسماء الأطراف وبياناتهم، وعناوينهم، وجميع معلوماتهم الضرورية، والهدف من العقد، والتزامات وواجبات أطراف العقد والغرض ونوع العقد ومدته وقيمته وطريقة الدفع والشروط الجزائية، وآلية الفسخ وطريقة حل المنازعات وتحديد الجهة المختصة عند نشوب النزاع والقانون الواجب التطبيق والسرية وعدم الإفشاء وتفاصيل بنود العقد، والإشارة إلى مرفقات العقد ومستنداته (إن وجدت)، وأن يقوم أطراف العقد بالتأشير على جميع أوراق العقد والتوقيع في الصفحة الختامية للعقد، مشيراً إلى الأثر القانوني لجائحة كورونا على التعاقدات: تقوم فكرة نظرية الظروف الطارئة على افتراض إبرام عقد من العقود اللازمة في ظروف معتادة ثم تتغير هذه الظروف التي قام عليها العقد «بصورة لم تكن بالحسبان تجعل تنفيذ هذا العقد مرهقاً لأحد الأطراف ومهدداً له بالخسارة»، فهل يجبر هذا الشخص على تنفيذ هذا الالتزام مهما كانت درجة الخسارة وأياً كانت الظروف، أم أن هذا الالتزام يعدل إلى الحد المقبول بتوزيع الضرر أو بالفسخ، وهذا ما جاءت به هذه النظرية إذ أباحت للقاضي أن يتدخل في مثل هذه الحالات ليعيد الموازنة بين مصلحة الأطراف، بأن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المقبول من خلال توزيع الضرر على المتعاقدين أو بفسخ العقد.
مسألة الثقة
ويبين الأستاذ خالد بن محمد المشيقح المستشار القانوني، مدير الشؤون القانونية بإمارة منطقة القصيم سابقاً، أن من مقاصد الشريعة التي جاء بها الإسلام حفظ الضروريات الخمس، ومن ضمنها المال، ولعل من وسائل وأسباب الحفاظ على المال: كتابة العقود وتوثيقها بمختلف أنواعها خاصة في هذا الزمان حيث قل الوازع الديني عند بعض الناس وزاد طمعهم، كما أن الاعتماد على مسألة الثقة بين الناس ليس مضموناً لأن قلوب الناس متقلبة وأحوالهم مختلفة من حيث قوة الذاكرة وضعفها، كذلك قد يكون المتعاقدان وقت العقد على وفاق ومحبة وعند تنفيذ العقد يقع بينهما العداوة والنزاع فتضيع الحقوق ويترتب على ذلك رفع القضايا في المحاكم والتي قد تستمر لسنوات، لذا كان من الأمور المندوبة شرعاً ونظاماً توثيق العقد أياً كان نوعه، ومشروعية ذلك آية الدين وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
قال جمهور أهل العلم إن كتابة الدين وتوثيقه أمر مندوب إليه، وقال بعض العلماء بوجوب التوثيق أخذاً بظاهر الآية وهو قول وجيه وينبغي إلزام الناس به خاصة في هذا الزمان قطعاً لأكل حقوق الناس بالباطل وسداً لأبواب النزاع والخصومات، والمشاهد في كثير من المجتمعات كثرة النزاع والشقاق والقضايا بسبب عدم توثيق الديون والعقود بأنواعها.
وخلاصة القول أن في الالتزام بتوثيق العقود حفظ للحقوق بين الناس وسبباً بعد الله في عدم حدوث نزاعات أو قضايا في المحاكم قد ينتج عنها آثار سلبية اقتصادية، واجتماعية.
الأخطاء الشائعة
ويبين الأستاذ ذيب بن محمد الدوسري الباحث القانوني أنه يراد بالتوثيق كل ما يُحكم به الأمر، والمراد هنا: «أن تقوى الالتزامات بين الأفراد بما شُرع من وسائل التوثيق؛ ومنها الكتابة؛ دفعًا للشك والريبة، ومنعًا من الجحود والنكران، وحفظًا للحقوق والأمانات»، ولقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (البقرة: 282)، وذلك منعاً للخلاف وإغلاقاً لباب الخصومة والتنازع، وإذا كان ذلك في الدين فإن التوثيق في غيرها أولى خاصة بعد التطور المشهود وتشعب المعاملات التجارية والمدنية وقلة الأمانة وفساد ذمم بعض الناس.
إن التوثيق لا يعني عدم الثقة في الطرف الآخر، وهذا من الأخطاء الشائعة بين الكثير من الناس إذا طلب منه الطرف الآخر كتابة الحق أو توثيقه بصورة مشروعة وواضحة، بل التوثيق حفظ للحقوق فقد يموت أحد الطرفين وينشب الخلاف بين الورثة والطرف الآخر فيكون العقد الموثق مُنهياً للخلاف، وقد تتغير الذمم فيرجع المتضرر إلى شروط العقد، والمتابع للشئون القانونية والقضائية يرى أن ساحات المحاكم تعج بالمتقاضين بسبب التساهل في هذا المبدأ. فالتوثيق لا ينافي الثقة بل هو سبيل للتقليل من نشوب الخلاف ومنع النزاع بين أطراف العقد وضبط العلاقة بينهما، كما يسهل على القاضي الفصل في النزاع حال الخلاف بالرجوع إلى شروط العقد وتفسيرها بما يتفق مع الشرع والنظام والحكم بموجبها، ولكن يجب أن يكون الحق أو الالتزام الموثق مشروعاً، وأن يتخذ الشكل الذي يحدده النظام في حال تطلب ذلك مع الالتزام بما توجبه قوانين الدولة من توثيق لبعض المعاملات والحقوق، وقد حدد الشرع صوراً للتوثيق منها الكتابة والإشهاد والكفالة والرهن، واستحدثت الدول صوراً أخرى وفقاً للسياسة الشرعية تماشياً مع مستجدات المعاملات وظهور معاملات بين الناس لم يسبق تقنينها كالتعاملات الإلكترونية، ويجب على المتعاقد اتباع ما قرره الشرع وما قننته الدولة حفظاً لأمواله وإثباتاً لحقه حال الخلاف، مذكراً أن الله سبحانه وتعالى جعل الإسلام آخر الرسالات وخاتم التشريعات، فأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وأرشد أنه خاتم النبيين وأوحى إليه قرآناً محكماً مفصلاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ضمنه كل شيء مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ، وسنة مفصلة مبينة لكل ما يحتاجه الناس لإصلاح حياتهم وجميع ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم فما ترك خيراً إلا وأرشدهم إليه ولا شراً إلا وحذرهم منه ولا مندوباً أو مستحباً إلا وحثهم عليه، ولكون العقود أهم مصادر الالتزام في التعاملات اليومية بين أفراد المجتمع ومؤسساته ولكثرتها وتشعبها حسب حاجة الناس، لذا ندب الشرع كتابتها وتوثيقها فينبغي على كل فرد المعرفة والعلم بشروط العقود التي أبرمها والالتزامات المترتبة عليها والعمل على توثيق ذلك وفقاً للشرع والنظام حفظاً للحقوق ومنعاً للخلاف.