د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
قصدتُ الطائف في صيف 1419هـ، ويممت وجهي إلى دار الإفتاء للسلام على سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-, وكان ذلك قبيل أذان الظهر, فلما اقتربت من المبنى فإذا سماحة شيخنا -رحمه الله- يخرج منه ولحيته تنطف من وضوئه, فسلمت عليه ودعاني إلى الغداء, وكان الشيخ واضعاً يده اليسرى على ذراع رجل لم أعرفه حينها, فما أن انتهيت من سلامي على الشيخ إذ مدَّ هذا الرجل يده ليسلم عليَّ! فألقيت ببصري إليه كأني أعتذر له أني شغلتُ بالشيخ عنه, فإذا ابتسامة تعلو محياه, فابتسمتُ لابتسامته, وفرحتُ بأريحيته, أن يكون هذا صاحباً لسماحة الشيخ, مضى الشيخ إلى المسجد ومضيت خلفه, فكان الشيخ يتحدث إلى هذا الرجل ويسرُّ إليه, فبان لي علو مقامه عند الشيخ, فسألت من بجواري من هذا, فقال: الدكتور محمد الشويعر مستشار الشيخ, فاستذكرتُ مقالاته التي كان يكتبها في الصحف, لكن لم أتوقع أنه يعمل مع سماحته, صلينا الظهر وأمَّنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- ورجعنا إلى مكتبه وجلسنا فيه, والشيخ تعرض عليه المعاملات, ويتلقى الاتصالات, ويأتيه المستفتون, دخل الدكتور محمد الشويعر مجلس الشيخ ومعه مجموعة أوراق فجلس عن يسار الشيخ وبدأ بقراءة الأوراق, فإذا هي خلاصة ما دار في أخبار الصحف من أحداث ذلك اليوم, وما يتعلق منها بشأن المسلمين ونحوها, رجع الشيخ ابن باز -رحمه الله- إلى الرياض فذهبت إليه في مكتبه بدار الإفتاء فوجدت الشيخ محمداً عن يساره يقرأ عليه فيما ظهر لي فتاوى الشيخ, فجلست ليس في المكتب إلا سماحة الشيخ وعن يمينه المدير العام لمكتبه الشيخ عبدالعزيز بن ناصر بن باز, وعن يساره الشيخ محمد -رحمهم الله جميعاً-, وأذكر أنه دخل رجل من جنوب أفريقيا وجلس بإشارة من أحدهما, فلما فرغ الشيخ من الهاتف, قال له أحدهما: هذا فلان قدم للسلام عليكم, فقام الشيخ وتقدم خطوات فعانق الرجل معانقة المحب, ودعا له الشيخ وشكره وعزمه, ثم غادر الرجل, فلما جلس الشيخ تقدمت إليه مسلِّماً مقبلاً رأسه, وسألته بعض الأسئلة, فربما استوضح الشيخ مني بعض الكلمات لخفضي الصوت بها, فكان الشيخ محمد الشويعر يوضح ما لم يسمعه مني سماحته فرحمهما الله وغفر لهما.
توفي سماحة الشيخ -رحمه الله-, وكنتُ أقرأ ما كتب عنه من كتب ومقالات, وكنت أذهب إلى دار الإفتاء مرة بعد مرة أسلم على مشايخنا فيها وأسألهم, ثم أصعد إلى مكتب الشيخ محمد الشويعر فأجلس إليه, فكان يحدثني ويتبسط معي فيمضي الوقت معه إلى أكثر من ساعة, حدثني مرة أنه كان يتعلم الكتابة قبل التحاقه بالمدرسة, فيكتب بعض الكلمات فتكون أول الكتابة في أول السطر من أعلى الصفحة ولا يتم السطر الأول إلا في أسفل الصفحة! فرآه مرة الشيخ صالح الحصين -رحمه الله- فقال له: ما شاء الله لعلك ترْفده بخشيبة!
كان الشيخ محمد -رحمه الله- يزودني بكل جديد من الكتب التي جمعها من فتاوى الشيخ, وسألته عن كتابته عن سماحة الشيخ وترجمته له, فقال: ما زلت أكتب فيها.
وأذكر أني دخلت عليه يوماً في مكتبه, فأخرج نسخة من كرتون بجواره, فإذا عنوانه: (عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة) من تأليفه, وكتب عليه إهداءً ودفعه إليَّ, فما فرحت ذلك اليوم بمثل هذا الكتاب, فقد ملئ من الدرر, ورصِّع من الذهب في سيرة شيخنا وقدوتنا في هذا الزمان, كم أحب الشيخُ ابن باز الدكتورَ الشويعر, وكم أحب الشويعرُ الشيخَ ابن باز, قصةٌ بدأت بالمحبة في الله, وأنتجت أكثر من ستين مجلداً لسماحة الشيخ, لم يأخذ الشيخ محمد الشويعر مالاً ولا عملاً إضافياً عن جمعه لتلك الفتاوى, بل لما قال له سماحته: لقد أتعبتك كثيراً, عمل في الليل والنهار, وفي وقت راحتك مع أولادك, سوف أعمِّد فلاناً -المسؤول المالي في البيت- يعطيك مبلغاً (وكان المبلغ جيداً) وسامحنا على التقصير, قال الشيخ محمد الشويعر: فما كان مني إلا أن قمت وقبَّلت رأسه وقلت له: لا أريد شيئاً جزاك الله خيراً, ولا تجعل حب الدنيا يفسد عملنا, إن مرتبي -بحمد الله- كافٍ, وفيه بركة من الله, ودعني أشارك في نفع المسلمين بهذا العلم المفيد, ولم أملك نفسي من البكاء أمامه من التأثر, مع تكرار الرجاء بألا يثير هذا الأمر مرة أخرى, فقد أحببتك في الله ولله، وتفانيت معك في هذا الأمر, براحة نفس وتقديراً لما أحطتني به, منذ بدأت فكرة عملي معك, فأرجو أن أكون مخلصاً, وأن توجهني إذا لاحظت مني قصوراً, فأنا ابنك وأتتلمذ على يديك, وأرجو أن يتقبل الله دعاءك لي, ففيه الخير والبركة, يقول الشيخ محمد: فتأثر -غفر الله له- وذرفت عيناه من الدمع.
أرسل إلي الشيخ سعد الحصين -رحمه الله- مقالاً كتبه لأبعث به إلى صحيفة الجزيرة عنوانه: (ابن شقراء المبارك دكتور محمد بن سعد الشويعر) فتم ونشر المقال, ومما ورد فيه (لما تبين من حديثه مع أخي إبراهيم -رحمه الله- كثرة العمل في مكتب ابن باز وقلّة العاملين, تطوّع بتحمّل ما يحال إليه منه، ودهش الأخ إبراهيم لأنّه تعوّد من الموظف الحكومي التّهرّب من بعض حمله إذا وجد إلى ذلك سبيلاً, فكيف يتطوّع هذا الرّجل النّبيل بحمل مسؤوليات غيره؟ لا عجب، فهو محمد بن سعد الشويعر، وكفى. وهكذا سخر الله للشيخ ابن باز -رحمه الله- من ينافس أخي إبراهيم في الصّبر على جَلَد ابن باز وسهره وكثرة أعماله الحكومية والتطوعية احتساباً للأجر عند الله وخدمة ونصيحة للدِّين ولولاة المسلمين وعامَّتهم).
صحب الشيخ محمد سماحة الشيخ إلى ليلة وفاته, ثم رافق جنازته -رحمهما الله- في السيارة التي نقلته من الطائف إلى بيته بمكة ثم من بيته إلى الحرم, ثم من الحرم إلى مقبرة العدل.
أقول: هنيئاً للشيخ محمد الشويعر -رحمه الله- محبة إمام السنة في زمانه, ويغبط والله على جمعه لفتاوى سماحته ونشرها, أسأل الله أن يجمعهما في الفردوس.
كنت أزوره مرة بعد أخرى في مكتبه, وأذكر مرة انتشر كلام حول فتوى سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- في ابن لادن, وأن الشيخ لا يمكن أن يقول فيه ذلك, فكتبتُ خطاباً إلى الدكتور محمد أخبره بذلك, فأجابني بكذبهم على سماحته, وأن الشيخ حذر من ابن لادن ومنهجه, وأن الموجود في مجموع الفتاوى, قد قرأت نصها على سماحته حيث إن أصلها تعليق على ندوة في جامع تركي بن عبدالله بتاريخ 1-5-1417هـ وتم نشرها في جريدة المسلمون في 8-5-1417 في عددها رقم (607), وعدل ما يحتاج إلى تعديل, وأقرها كما هي موجودة في الفتاوى, وعندي أصل التعديل, فلعلك إذا مررت بي أريتك ذلك.
وسألته مرة بخطاب وجهته إليه, هل كان سماحة الشيخ -رحمه الله- كان يفتي سراً بجواز حل السحر بمثله لضرورة؟ فاتصل بي بعد وصول الخطاب إليه مباشرة وكان ذلك في يوم الاثنين الموافق 17-10-1428هـ صباحاً, وقال لي: هذا اتهام للشيخ, وهذا من صفات المنافقين, ولا أعرف ذلك أبداً مع ملازمتي التامة له.
وأشيع كلام آخر عن جماعة التبليغ وأن سماحة الشيخ يثني عليها, فكتبتُ خطاباً للشيخ محمد مستفصلاً عن الموضوع, فأجابني: بأن الشيخ استقر كلامه في التحذير من منهجهم, وأنه لا يرتضي غير ذلك, وأثبت ذلك في مجموع فتاواه بأمره -رحمه الله-.
ودخلتُ مرة عليه بصحبة الشيخ سعد الحصين -رحمهما الله- فبعد السلام والتحية أشار إليَّ, وهو يكلم الشيخ سعداً, ويقول: هذا الرجل نفعني الله به, وجزاه عني خيراً، قد أحسن إليَّ إذ كان يخبرني ببعض الأمور التي لا أعرفها, وأنا أنظر إليه متعجباً!! فقال الشيخ سعد: هو محسن إلينا كلينا, فهو الذي أتى بي إليكم جزاه الله خيراً, فازداد عجبي من تواضعهما ولطفهما وكرم النفس مع من هو في منزلة أصغر أبنائهما.
وأذكر لما أخذتُ شهادة الدكتوراه كان الشيخ محمد يرسل إليَّ بحوثاً وردت إلى مجلة البحوث الإسلامية لأحكِّمها إذ هو رئيس تحرير المجلة, وأذكر أني حكمتُ بحثاً وكتبت إليهم بعدم صلاحيته للنشر البتة, واتصلتُ بالأخ الكريم أبي عبدالله محمد الربيّع -الذي كان ابناً للشيخ محمد من غير صلبه في تعامله ومحبته وصدق لهجته معه- قائلاً له: إن البحث قد انتهيتُ من تحكيمه, وبعثته إلى بريد المجلة, وكتبتُ بأنه لا يصلح للنشر أبداً, وأؤكد لك ذلك الآن فأخبِرْ معالي شيخنا الدكتور محمد بتأكيدي, فإني أخشى أن يجيزه المحكم الآخر فترجحونه بثالث, ثم ينشر فأخشى أن تكون بلبلة أنتم في غنى عنها, فقال: أبشر, وبعد عدة أشهر نشر البحث نفسه في مجلة أخرى, فصارت بلبلة كبيرة حوله كما توقعت, فاتصلت أو اتصل بي محمد الربيع يقول: بيّض الله وجهك, والحمد لله أن الشيخ محمداً أخذ برأيك وتسبيبك في عدم صلاحيته للنشر.
كتب إلي معالي الدكتور محمد خطاباً في 3-11-1434هـ يتضمن ترشيحي أن أكون ضمن لجنة الهيئة الاستشارية في المجلة, فأجبته بالموافقة مع الشكر والتقدير لمعاليه على حسن ظنه.
نال الشيخ محمد وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى في 2-6-1420هـ.
ألف كتباً كثيرة من أهمها: تصحيح خطأ تأريخي حول الوهابية, كان آخر كتاب اقتنيته من مؤلفاته قبل رمضان هذه السنة بشهر هو: (الحصري حياته وأدبه والنقد في كتابه زهر الآداب) في مجلدين.
قال لي مرة حين حدثته عن كتابة المقالات بالصحف, وأنها تأخذ وقتاً: صحيح ولكن ذلك في أول السنوات ثم بعد ذلك المقال نفسه تقلبه رأساً على عقب, فيكون مقالاً آخر, فقلت: هذه لا يحسنها إلا العالِمون بها المتقنون لها.
كان بينه وبين الشيخ راشد ابن خنين -رحمه الله- مودة كبيرة, وكان الشيخ راشد ربما يبكي إذا رأى الشيخ محمداً بل يبكون جميعاً تذكراً لسماحة الشيخ ابن باز -رحمهما الله- قال الشيخ محمد: لا أذكر أنني سلمت على الشيخ راشد إلا شدَّ على يدي بقوة, وصار يبكي من محبته للشيخ, وأذكر أني زرت معالي الشيخ راشد ابن خنين فجاءه معالي الشيخ محمد بكتابه عن ابن باز ليهدي نسخة منه فانهملت دموعهما رحمهما الله ورحم الشيخ ابن باز.
تولَّى وأَبقى بيننا طيبَ ذكره... كباقي ضياء الشمس حين تَغيبُ.
اتصل الصديق والصاحب والشيخ الكريم أبومحمد دكتور عبدالسلام الشويعر على والده ليخبره أنه قد رزق بابن, فدعا لابنه وهنأه به, ثم قال: هذا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز بجانبي أخبره بذلك, فدعا له سماحة الشيخ بالصلاح وبالبركة, وقال له: سمِّه محمداً, فقال دكتور عبدالسلام: أبشر شيخنا, هو مسمي نفسه, وكان هذا قبل وفاة الشيخ ابن باز بشهر تقريباً.
كان الشيخ محمد قريب الدمع, يتأثر ويؤثر, ذا رأي وتأنٍّ, وكانت أعجب صفة فيه بالنسبة لي إليه هدوءه التام ليس بضجر, فقد كان هادئ الطبع, حتى إنه من هدوئه لو لم يتكلم في المجلس لم تحس بوجوده, وكان -رحمه الله- رجلاً ذا سكينة, إذا رأيته يمشي ربما تذكرت قول الله سبحانه: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا).
وقال الشيخ سعد الحصين -رحمه الله-: (وأعجب مميّزات الشيخ دكتور الشويعر.. أنني لم أره متبرّماً مرّة واحدة أو شاكياً من كثرة المسئوليّات التي قدّرها الله تعالى، فقبلها شاكراً راضياً مرضيّاً).
اتصل بي الشيخ محمد فقال بعد التحية: وجدت لك خطاباً موجهاً لي, فهل أجبتكم عليه, فإن كان وإلا كتبتُ الجواب إليكم, فقلت: بل وصلني جوابكم على خطابي بعده بأيام, فجزاكم الله خيراً يا أبا عزام.
ذكر لي أحد الزملاء أن أحد المشايخ الفضلاء من علماء اللغة الكبار سناً وحقيقة يسأل عنك, ويطلب زيارتك! فاستغربتُ ذلك؛ إذ لم يكن لي به أدنى صلة, ثم قلت: وكيف الوصول إليه, فأعطاني رقم هاتفه, فاتصلتُ به, فقال بعد السلام: لقد حدثني عنك أبوعزام الدكتور محمد الشويعر, فلما أخبرته بأني لا أعرفك, قال: كيف لا تعرفه, وأثنى عليك خيراً, فأحببت التواصل معك بعد ذلك, فقلت: ليست هذه بأول أفضال الشيخ محمد فله أفضال كثيرة جزاه الله عني خيراً.
كان عقد نكاحي في دفتر ضبطه مرقوماً, ووثيقة النكاح بتوقيعه -رحمه الله- ممهورة.
ولد الشيخ -رحمه الله- بشقراء سنة 1353هـ تقريباً كما أخبرني ابنه الشيخ عزام, وتوفي في ليلة السبت الموافق 19-9-1442هـ, فكان عمره كعمر شيخه ابن باز 89 سنة, صُلي عليه بعد صلاة العصر يوم السبت في مقبرة النسيم بالرياض, وأمَّ الناس عليه ابنه الشيخ الوقور أ.د. عبدالسلام, وحضر الجنازة خلق كثير, وترحم الناس عليه, ودعوا له من داخل المملكة وخارجها, وأرسل الديوان الملكي برقيتي عزاء من ولاة أمرنا -حفظهم الله وجزاهم عن المسلمين خيراً-.
خلَّف معالي الدكتور محمد بفضل الله عليه ذكراً طيباً, وكتباً, وسيرة حسنة, وذرية مباركة يغبط عليها.
يَعِزُّ عليَّ حين أُدير عيني
أُفتِّش في مكانك لا أراكا
رأيتُ الشيخ محمد الشويعر في المنام يوم الاثنين 21-9-1442هـ بعد وفاته بثلاثة أيام أننا في مسجد, والشيخ محمد في روضة المسجد على كرسي مسترخ عليه ومعه أوراق, وعن يميني رجل اسمه «مرزوق» ونحن خلفه في الصف الثاني أو الثالث, فتحدث, وكان مما قاله: أنا هنا في الرياض, أنا هنا في الرياض, فأسأل الله أن يجعله في رياض الجنة, وأن يرزقه من ثمارها, وأن يُفرِحَه بعفو منه ورحمة.
قلت لابنيه الفاضلين الشيخين الكريمين: دكتور عزام وأ.د. عبدالسلام قبل أكثر من سنتين, لو تجمع مؤلفات الوالد ومقالاته فتكون في مجموع واحد, لكان فعلاً حسناً وجهداً مباركاً.
وما خلفه معالي الشيخ هو أرض ثرية للبحث في رسائل علمية في اللغة والأدب والتأريخ والتربية.
وختاماً، رحم الله الشيخ محمداً وغفر له وأحسن عزاءنا فيه, وجبر مصاب أهله وولده ومحبيه على فراقه, و»إنا لله وإنا إليه راجعون».
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء