إعداد - د. هناء بنت راشد الشبلي:
قبل فترة الحجر وصلت لي رسالة على الواتس من إحدى الفنانات التشكيليات من جيل الشباب تشعرني فيها بمشاركة لها خارج الوطن فباركت وتمنيت لها التوفيق, لكن لفت نظري اسم الجهة التي نشرت الإعلان والراعية للفعالية في الخارج, فعرفت أنها جهة خاصة تمارس أنشطتها الفنية بالاعتماد على ما يقدمه الفنان المشارك من مبلغ مقطوع يغطي التكلفة الكلية للمعرض مع الربح المجزي, بغض النظر عن قائمة الفنانين المشاركين أو مستواهم أو أين يُعرض ومتى يُعرض ولمن يُعرض!!
فناقشتها حول ذلك فجاوبتني: أنا مستعدة ومثلي الكثير من الفنانين الشباب وغير الشباب لدفع أي مبلغ مقابل أن أكتب في سيرتي الذاتية عدداً من المشاركات الفنية الخارجية, لأنها غير متاحة لي من أي جهة حكومية ولم يعترف أحد بموهبتي الفنية أو يرشحني لتمثيل المملكة بالخارج, حتى وإن كنت من أفضل الفنانات!!... وذُهلت جين عددت لي أسماء مجموعات من الوطن ومن خارجه تمارس هذه المهنة بالسمسرة على التشكيليين السعوديين, وذكرت لي أن هناك بعض المجموعات أكثر احترافية وتتعامل بشكل جدي لكن سعر اشتراكها أغلى وأعلى, لكنها تعترف أن الخاسر الأول هو الفنان التشكيلي في كل الأحوال, أما لضياع أعماله أو تلفها أو خسارة المبلغ بدون أي فائدة, أو اكتشاف أن الجهة التي تدعي الاهتمام بالفن كاذبة ولا علاقة لها به»... بعدها توقفت هذه الفعاليات بفضل قرار الحجر ومنع السفر وهذا أحد الجوانب الإيجابية لوباء الكورونا كفانا الله ضرره ورفعه عننا بحوله وقوته.
المغزى من ذكر هذه القصة هو ملاحظتي لعودة هذه الإعلانات بقوة خلال هذه الفترة وأصبحت أكثر جذباً, ومازال لها جمهور يصدقها, مع وعود مغرية وشهادات فخمة تقدم مع ألقاب رنانة مثل: «الفنان العالمي» و»نجمة الفنانات» «الفنان الألماسي» وغيرها من ألقاب مضحكة ليس عليها رقيب أو حسيب, والمؤلم أن هناك فنانين يوصفون بالمحترمين أصبحوا مشاركين ويعززون لرئيس المجموعة (مواطن أو مقيم) مقابل مصلحة ومنفعة شخصية تكون على حساب بقية المشاركين الذين وثقوا بهم للأسف, فبعضهم جرب ولم يعاود التجربة لأضرار مادية ومعنوية تكبدها خلال مشاركته خارج المملكة, ومنهم من أحب المغامرة ولا يأبه لأية أضرار ولا يهتم لصرف المال أو ضياع السمعة, فالمهم هو الحصول على هذه الألقاب والشهادات المزيفة مع إعلام صاخب ورخيص. وقد وجهت السؤال لأحد المسؤولين بوزارة الإعلام عن هذا الموضوع فذكر أن تأخير إصدار لوائح تنظيمية وشروط تضبط المشاركات الخارجية للفنان التشكيلي هو بسبب مسألة انتقال الصلاحيات بين وزارتي الإعلام والثقافة, مما أعطى فرصة ثمينة لهذه الجهات الخاصة لاستغلال شغف الفنان التشكيلي السعودي بالمشاركات الخارجية بعيداً عن أي محاسبية.
فوزارة الثقافة ممثلة بوزيرها الشاب الأمير بدر بن عبدالله آل فرحان حفظه الله منذ نشأتها لم تتوقف مشاريعها الداخلية أو مشاركاتها الخارجية بهدف إبراز وتعزيز الثقافة السعودية في المشهد الدولي من خلال المشاركة في الفعاليات والأيام الثقافية العالمية, وكان نصب عينها أن تكون قائدة الحراك الثقافي بكل أوجهه الإبداعية والعالمية. لكن ذلك كان يتم وفق أجندة خاصة بها مع قائمة أسماء تمثل المملكة وفق معايير معينة لم تعلن للملأ إلى الآن, وهذا الأمر يثير قلق بعض الفنانين التشكيلين ويعطيه مجالاً لأن يرمي الشكوك حول أي مشروع ثقافي كما تعود هو وغيره منذ نشأة أول جهة ثقافية بالمملكة, فقد كنا نشهد مشاركات خارجية ضخمة لوزارة الثقافة والإعلام قبل انفصالهما عن بعضهما وصُرفت عليها ميزانيات كبيرة وأعد لها برامج سنوية ودورية وتشكيل لجان فنية بأسماء معروفة, أذكر منها «الرياض بين الأمس واليوم» «الأيام الثقافية للمملكة», «معرض الفن المعاصر» وغيرها, كان لها صيت جميل، لكن أثرها الإيجابي محدود ولم تتحقق الأهداف المنشودة بالكامل. وقد شاركت بلوحات فنية في بدايات الفترة ولم يسمح وقتها للمرأة بالسفر وتمثيل المملكة, فقد كانت تصلني بعض الأحيان صور للمعرض والشهادة فقط, بعدها بفترة كانت البرامج والمشاركات الخارجية أكثر توسعاً وتتوجه لمختلف الدول العربية والأجنبية ولكن بعض الأسماء المشاركة (رجال, نساء) أصبحت تتكرر, وهذا ما أثار غيظ الكثير من المجتمع التشكيلي السعودي وسبب إحباطاً لبعض الفنانين الكبار ذوي تجربة طويلة وناضجة وانكساراً لشباب واعدين أصحاب موهبة, وقتها آثرت التنحي ولم أهتم أو أطالب بالمشاركة وانشغلت بعملي كخبيرة مناهج بوزارة التعليم, وهذا أعتبره الآن قصوراً مني في حقي, كون هذه المشاركات الفنية الخارجية السعودية لها أهميتها الكبيرة بالنسبة للفنان التشكيلي من حيث تعميق خبرته الفنية وصقلها بالتلاقح الفكري والثقافي مع الآخر, وهي فرصة مهمة تسمح لإنتاجه الإبداعي بالانتشار مع الحصول على التقدير الفني الصحيح نقديًا وجماليًا وأيضًا ماديًا. وبالمقابل فإن هذه الأهمية تنعكس على المملكة وتعمل على إيصال المفهوم الأصيل للثقافة بما يتضمنه من فنون بصرية وتراث له تاريخ مجيد، حيث تسهم تلك المشاركات الثقافية في خلق صورة إيجابية عن الوطن بمناطقه المتميزة بالتنوع والاختلاف الجميل، كما تمنح على المدى البعيد تأثيراً واضحاعلى قوة المملكة ثقافياً واجتماعياً، مؤكدة الوجه السمح لديننا وتاريخ بلدنا أمام ثقافات العالم, حيث يبقى الفن رسالة السلام والتسامح بين الدول, ولهذا يتم توظيفه لتقريب وجهات النظر والتعرف على الفنون وثقافة الآخر بما يسهم في سد الفجوات الثقافية بين الشعوب, فالفنون البصرية بمختلف مجالاتها تعتبر حلقة وصل بين الحضارات والثقافات المختلفة، لأنها تتكلم لغة عالمية مشتركة وتحمل رسالة سامية للعالم وتعزز روح التسامح بين البشر, حيث تسعى جميع الدول المشاركة في تلك المناسبات العالمية لتقديم مساهمات ثقافية مختلفة ومبادرات مبتكرة كلُّ في مجاله. فالفن بطبيعته ينبذ التطرف ويقرب وجهات النظر ويحسن فهمها ويظهر نقاط القوة والضعف التي يعالجها بما يضمن التناغم المجتمعي, وقد قرأ معظمنا ما ورد بوسائل الإعلام وما كتب بالتقرير السنوي لوزارة الثقافة عن مشاريع ومشاركات خارجية دولية أظهرت الوجه المشرق للتلاحم المجتمعي وحرية التعبير في بلاد تميزت بالتعددية الثقافية، وتعمل على تعزيز حضور المملكة في المحيط العربي والدولي وتعكس طبيعة التنوع الفني والثقافي السعودي, وقد تم افتتاح جناح المملكة العربية السعودية في مهرجان البندقية للفنون «بينالي فينيسيا» حيث شاركت الوزارة في مهرجان بينالي البندقية 2019م من خلال تمثيل المملكة بجناح للفنون، حيث يعتبر هذا الحدث أحد أبرز التجمعات للحوار الثقافي على مستوى العالم, باستضافته سنوياً شخصيات عالمية متخصصة في المجال الثقافي, كما شاركت المملكة للمرة الثانية بجناح وطني في النسخة 17 من بينالي البندقية للعمارة 2021م الذي يحمل اسم «مقار» وهذا يعد مصدر فخر واعتزاز لكل مصمم أو مهندس أو فنان ولكل مواطن سعودي, فهذه المشاركة الخارجية تتميز بأنها قدمت ثلاثة شباب ناشئين يمثلون شباب المملكة في معرض تحت عنوان «كيف سنعيش معاً» هذا العنوان المميز جذب الانتباه لمضمونه, وقد تم اختياره بذكاء ليتزامن مع قضية العالم أجمع وهي «الحجر الصحي في أيام جائحة كورونا».
فالحركة التشكيلية السعودية أصبحت تضاهي الحركات التشكيلية العربية وإن لم تتفوق عليها، والفنانون السعوديون حققوا ظهورًا مميزًا في معظم البيناليات العالمية التي شاركوا فيها سابقا، ومنهم - على سبيل المثال وليس الحصر - الفنان محمد الغامدي الذي فاز بجائزة بينالي الشارقة الأولى، والفنان هاشم سلطان رحمه الله فاز بجائزة بينالي بنجلادش الأولى، والفنان نايل الملا فاز بجائزة في بينالي القاهرة وطهران، والفنان طه الصبان فاز بجائزة بينالي اللاذقية. كما بيعت أعمال لفنانين سعوديين في مزادات عالمية مثل الفنان عبد الرحمن السليمان وأحمد ماطر وعبد الناصر غارم.
وفي الختام نتطلع نحن التشكيليين لإصدار ما يضبط هذا الانفلات بالدعوات الوهمية لمشاركات خارجية بمعارض فنية تستهدف أموال الفنان التشكيلي السعودي وتستثير شغفه بالشهرة والإعلام الكاذب والألقاب المزيفة, وذلك أسوة بما صدر من لوائح لتنظيم المشاركات الخارجية للرياضيين ولطلبة التعليم بما يحمي حقوقهم ويحافظ على سمعة بلدهم التي يمثلونها خارجياً بشكل مشرف. ونحن نعلم جيداً أن وزارة الثقافة تعمل جاهدة بخط موازٍ لرؤية المملكة العربية السعودية 2030م, مما يحتم عليها أن تكون جاهزة لدعم هذا الموضوع كونه أحد أهم روافد التنمية وبناء الإنسان المبدع وإبراز جوانبه الثقافية والفنية ليخدم بها وطنه الكبير المتنوع بثقافاته وفنونه وتراثه تحقيقاً لبرنامج «جودة الحياة». ونحن على أمل في تغيير النظرة القديمة التي تعودنا عليها من قِبَل بعض الجهات عن المشاركات الخارجية, ونرى أنه قد حان الوقت لإصدار هذه اللائحة التي تتضمن ضوابط وشروط المشاركة الفنية الخارجية, مع تشكيل لجنة مختصة لاختيار المشاركين وفق معايير واضحة ومتاحة على موقع الكتروني تسمح لجميع الفئات العمرية بالتسجيل بشكل دوري بين الفنانين بعيدا عن الواسطة أو المنفعة الشخصية وتحقق العدل للجميع وتحمي شبابنا من الاستغلال من قبل ذوي النفوس الضعيفة أو الانتماء لجهات خارجية مثيرة للشبهة, وأن تستثمر الوزارة الوفود المشاركة في تلك المعارض الخارجية بالتواصل مع الجهات التي تُمثِّل الوطن في الخارج وعمل زيارات للسفارات والملحقيات الثقافية ومقابلة الخبراء السعوديين المقيمين في الخارج لمناقشة وجهات النظر ودمج الرؤى وعقد المشاورات وإعداد الخطط، بهدف تعريف الدولة المستضيفة بالمملكة العربية السعودية ودورها الريادي، ومناقشة عقد ندوات مستقبلية بين تلك الجهات للتعريف بالقيادة ودورها في حل قضايا الدول ومساعدة الشعوب، وإسهاماتها الإنسانية حول العالم، ووضع الخطط للرد على الحملات الإعلامية الخفية في الخارج التي تستهدف وطننا وأمنه ولحمته، حتى يكون التمثيل الخارجي في تلك المعارض الفنية والورش المصاحبة لها نقطة انطلاق إلى ما هو أبعد وأشمل تساهم في مصلحة الوطن والمواطن، وتعطي صورة حقيقية لقيادتنا ووطننا على خارطة العالم أجمع.
** **
فنانة تشكيلية - الرياض.
@hana¬¬¬_alshebli