د. شاهر النهاري
أتذكر قصص الشعراء في الزمن الذي سمي بالجاهلي، يهيمون في الأرض، ويلقون القصائد بين أسماع الحفاظ، لتتناقلها الركبان بين الأمصار بكل ما تحتويه من لغة وشاعرية، ومناطق إعجاز، ومن خروج على المألوف للتميز، وانطلاق في حريات مثالية لا سلطة عليها سوى قدرة الشاعر، ومدى تفتق خياله.
ومن بعد ذلك زادت القيود على مبدعي الشعر، فخلقت سقوفاً جديدة، لم يكونوا يعرفونها، ما جعل الشاعرية تحني عنقها، وتنثني قامتها وتبلغ الركوع، وتدفن حلم البوح الشاعري تحت ركام الأرض، وبعيداً عن أسياخ حديد محمية، تتزايد أعدادها، وتشابكها، وكويها لخلايا دماغ كل من يعاندها، ويحاول التمرد عليها.
سقوف متعددة الأدوار، ظلت تحرم الشاعر كثير من إبداعه، ومن أن يُكتَبَ بين المثقفين شاعر، ليتجه إلى مصاف الهجين، الذي تنطوي أعين حرياته، ويعجزه البقاء، أو أنه يرفض بذاته أن يكون فيبيع شعره ونفسه لغيره.
السقف الأول: صلابة قواعد اللغة العربية، التي رصفت أمام الشاعر الحالي شوارع لا يتمكن من المرور من غيرها، وإلا فسيصطدم بالكتل الأسمنتية وأعمدة الإضاءة، ويعيش طوال عمره يحاول تذكرها، والمرور مرتعباً من بينها، ومحملاً بأثقال الخوف من السهو، أو اختلاق ما ليس في اللغة، مما قد يجعله يزاح بقوة، رغم شاعريته، وقد يغرق بالعامية، وربما يوصف بالمخرب، أو الجاهل، أو الحداثي، أو غيرها من الصفات، التي تجبره وتسلبه حرية الشاعرية، لكي يتم احتسابه بين الشعراء.
السقف الثاني: أيديولوجيا المعتقد بدين أو مذهب أو طريقة، ونشوء خطوط تحريم متعارضة متشابكة عديدة المتاريس والخطافات، لمنع الفكر من بلوغ نقاط التماس، مع حدود وهيبة السماء، أو مع من يحرسون حدودها على الأرض، فيصبح الشاعر مقيداً بطوق كل كلمة وعبارة وفكرة، يختلس النظر للحراس، لاستشفاف احتمالات الفهم والرضا بغية تعدي مراحل الخوف، والتقريع، والتأطير، ومن تفسير عنيف لعباراته، بما قد لا يبلغ نيته، وربما يجرمه فوق ذلك، ويحاسبه بقوة على محاولة الاقتراب من أي خط قداسة، يؤدي لازدراء شخوص أو رموز، أو التشكيك في أفكار أو معتقدات، ما يجعل الشعر ينثني بعجز حتى تتشوه مفاصله، بين محاولات تزوير الأقوال، والتلاعب بالصور، ورسم أبيات كلمات متقاطعة لا يفهمها المتلقي، ويظل لكل رقيب ألف اعتراض عليها وسوط.
السقف الثالث: سقف سلطة تتعمد حكم الألسن، ومنع الخروج عن مقاصدها، ومهما بلغ الخيال والشاعرية، فلا بد أن تمر من بين قضبانها، والذي لا يحب ولا يوالي من يفتح الجروح الداملة، أو يجعل الأعين ترى من خارج سياج الأسوار المكهربة، فيموت الشعر في ضريح مديح، ويتقولب مشوهاً، ويصاب بداء الروتين والتكرار، والاستجداء، وتموت محاولات الشاعر في خلق الإبداع، وبلوغ حرية القول، هجين لا لسان حق له، إلا للترويج لقوالب مقننة مصنعة قديمة، لا تعرف رفة جناح فراشة حرية.
ونأتي للسقف الرابع: وهو السقف المجتمعي، الذي قد يخلط الأفكار والأعذار، ويعكر بقية السقوف في التقريع والمنع، واحتقار القائل، لأنه خالف مسيرة وسيرة وأخلاقيات المجتمع في احتضان وتلميع وتمجيد الصور المتجمدة، التي يراها المجتمع مفيدة، ويستنهض بها الهمم لذبح كلمة أو بيت أو فكرة لا ترتضيها الجموع المتحلية بالوقار مهما كان مستعاراً، فيظل الشاعر مطارداً بينهم، وقد يحتاج مرات للجنون ذريعة، قبل أن يعيده المجتمع لمسار القطيع، بعد أن تدمى شاعريته، وتغوص بين شقوق الأرض، وتسكن كهوف الظلماء، للهروب بالذات من نقد مرير، قد يتحول لهراوة صلابة وأحقاد تفتح الرأس، لينفث سحر خياله بما يشتهون.
والسقف الخامس: هو ندرة المعنى البكري الجميل المبتكر، غير المكرر، كون جميع شعراء هذا الزمان، محكومين بما قيل في تاريخ الشعر، وما رسم وما تراكم بجيناتهم من صور السابق، فيظل الشاعر عاجزاً عن تبنى أي صورة مبتكرة جديدة، وربما حينما يجدها، ينثني أكثر، حتى تتكسر ثناياه، وتزرع في التراب، خوفاً من أن يضطر لحقنها بزيف وجراثيم المديح، فتموت خديجة قبل أن ترى من النور لمحة.
العالم العربي أصبح نادر الشعراء المتميزين الأحرار، من يتكلمون برقاب تمتد إلى ما فوق السقوف الشائكة، ولذلك لم نعد نسمع من الشعر ما يستحق التوقف عنده، إلا في حالة كنا نحن ذلك السقف المؤزر بسلطة وعنصرية، منتظرين من أشعاره تنزيه مواقفنا، وإعلاء قيمتنا، ولو إلى حين.
وبين حين وآخر يخرج لنا شاعر، يلفت انتباهنا، ثم سرعان ما نعرف من أين ينطلق، ومن الذي يحركه، وما هي أهدافه السياسية، أو الدينية، أو العنصرية، فنضمه مهما كان موهوبا لكوكبة المهمشين.
العيش بلا سقوف معاناة وهم حمل الأمانة مرهق، والعيش تحت السقوف المتراكبة ضيق وغم وهم وقيود وضعف بصر وبصيرة، وفشل عظيم في إنتاج الخيال والإبداع الشعري البديع.