د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
نجد استعمال هذا التركيب شائعًا في كتب المحدثين لا فرق بين أدباء ولغويين، ومن أمثلة ذلك، قول الرافعي «قلت في نفسي: هذا الآخر هو الآخر من المجنون وجنونه»(1)، وقول محمد مندور «وخلق الأدب أو الإنتاج هو الآخر لا يمكن أن يفسره علم النفس»(2)، وقول شوقي ضيف «وربما كان أكثر من عارضهم في حاشيته أستاذه الحفني، وكانت له هو الآخر حاشية على الأشموني»(3).
ونجده في مقدمات تحقيق كتب النحو، مثل «غير أنه -هو الآخر- لم يذكر المصادر والمراجع التي اقتبس منها»(4)، وفي البحوث النحوية نحو «إِنَّ هذا النَّصّ هو الآخر يثبت بما لا يدع مجالا للشك أَنَّ لسياق الحال تأثيرا واضحا على الجملة الاسمِيَّة»(5).
توقف في قبول هذا التركيب محمد تقي الدين الهلالي قال: «هذا خطأ شائع في البلاد العربية، يقول شخص مثلًا: نسي صديقي وعده ونسيت أنا الآخر، أو نسي هو الآخر. فاستعمال (الآخر) هنا خطأ محض. والصواب: ونسيت أنا أيضًا. وهذا الاستعمال موجود في اللغة العامية المصرية بإبدال الهمزة راء، يقولون مثلا: نسيت أنا (راخر)، والظاهر أن أول من ارتكب هذا الخطأ عامة الكتاب المصريين، لأنه موجود في لغتهم العامية فاستعملوه في الفصحى، وتبعهم غيرهم من عامة كتاب البلاد العربية والمتكلمين بها من غير العرب»(6).
ولكنه تركيب أجازه مجمع اللغة العربية في القاهرة وصححه غير واحد اعتمادًا على قرار المجمع الذي ورد فيه «مما تجري به أقلام كثير من المعاصرين نحو قولهم: قد أدى واجبه، ومحمد هو الآخر يؤدي واجبه. فاطمة تصلي، وهند تصلي هي الأخرى.
درست اللجنة هذا الأسلوب، وناقشته من شتى نواحيه، وانتهت إلى أنه لبيان المماثلة، وقد يكون للتبكيت، على نحو ما جاء في تفسير الإمام الرازي من قوله (يقول من يكثر تأذيه من الناس –إذا آذاه إنسان- هو الآخر جاء يؤذينا، وربما يسكت على قوله: أنت الآخر، فيفهم غرضه، كذلك هنا). هذا.. والضمير مبتدأ بعد الاسم الأول، ومؤكد للفاعل بعد الفعل في المثال الثاني، أما لفظ الآخر أو الأخرى فهو بدل من الضمير في كلتا الصورتين. ولهذا ترى اللجنة أن التعبير صحيح لا بأس على الكتاب فيه»(7).
وتابع المجمع عدد من المصححين كالعدناني(8)، وأحمد مختار عمر(9).
واللجنة المجمعية اعتمدت على نص يتيم للرازي اقتطعته من سياقه فلم تحسن فهمه في رأيي، وهو نص جاء في سياق تفسير قوله تعالى {وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى}[20-النجم].
قال الرازي «الْأُخْرَى كَمَا هِيَ تُسْتَعْمَلُ لِلذَّمِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ [الْأَعْرَافِ: 39] أَيْ لِمُتَأَخِّرَتِهِمْ وَهُمُ الْأَتْبَاعُ وَيُقَالُ لَهُمُ الْأَذْنَابُ لِتَأَخُّرِهِمْ فِي الْمَرَاتِبِ فَهِيَ صِفَةُ ذَمٍّ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ الذَّلِيلَةُ»(10). وقال أيضًا «وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْأُخْرَى تُسْتَعْمَلُ لِمَوْهُومٍ أَوْ مَفْهُومٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا وَلَا مَذْكُورًا يَقُولُ من يكثر تَأَذِّيهِ مِنَ النَّاسِ إِذَا آذَاهُ إِنْسَانٌ (الْآخَرُ جَاءَ يُؤْذِينَا)، وَرُبَّمَا يَسْكُتُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْتَ الْآخَرُ فَيُفْهَمُ غَرَضُهُ كَذَلِكَ هَاهُنَا»(11).
وهذا الذي ذكره الرازي مثل قول أهل الحجاز (البعيد) لمن يريدون ذمه، يقولون: البعيد فعل كذا وكذا. ويلاحظ أن اللجنة زادت في نص الرازي الضمير (هو)، ولو أبدلنا (أيضًا) بلفظ (الآخر) من نص الرازي لما استقام الكلام.
والذي ننتهي إليه أنه لا مساغ لهذا الاستعمال والقول ما قاله الهلالي.
... ... ... ...
(1) - مصطفى صادق الرافعي، وحي القلم، دار الكتب العلمية، ط1، 2000م، 1: 301.
(2) - محمد مندور، الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2004م، ص139.
(3) - شوقي ضيف، المدارس النحوية، ص: 361.
(4) - ابن هشام، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1: 21.
(5) - إيهاب عبد الحميد عبد الصادق سلامة، قرينة السياق ودورها في التقعيد النحوي والتوجيه الإعرابي في كتاب سيبويه، رسالة دكتوراه، جامعة عين شمس، 2016م، ص: 189.
(6) - محمد تقي الدين الهلالي، تقويم اللسانين، مكتبة المعارف، ط1، 1978م، ص30 .
(7) - مجمع اللغة العربية، الألفاظ والأساليب، 125 .
(8) - محمد العدناني، معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة، مكتبة لبنان- ط2 – 1996م، ص: 1 .
(9) - أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، 1: 70 . معجم الصواب اللغوي، 1: 782 .
(10) - الرازي، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، 28: 296 .
(11) - الرازي، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، 28: 296 .