دَوت صَرختي الأولى في ذلك البيت المتهاوي من الطين قُرب بئْر قديمة طُمر بِداخِلها ما نبذ من عادات الجهل.. التي لا تزال تَسري على أَلْسنة مَن كَان بِدَاخِلِهِ جَاهِلِية! حَملتُ هَذهِ الكُنية في حياتي أَكثر مِن اسمي الحقيقي.. كُنت في طُفولتِي أَفرح كَثيراً عِنْدَما أَسْمع الجَمِيع يُنادِي علي بِقَرَادة, ولَم أَكن أَعلم أن ذَلِكَ نَذِير شُؤم عَلَى حَياتِي!
لا زَال صوت بُكاء أُختي في أذني وهِي تَسْتمع لصوت جدتي الجهوري.. الذي خِلْتهُ قَذِيفة اخترقتْ فؤادي الصغير لِتفتتهُ إلى أَشْلاءَ صَغِيرة يَصعب عِلاجها! عندما أَمرتْها بِالزواج من رَجُل عُمْرهُ ثَلاثة أَضْعاف عُمْرها معللة ذَلك بِزواجها وهي في التاسعة من عمرها, وزَواج أُمي.. التي تَرقُد في المُسْتَشَفَى, وهِي في الخَامسة عَشرة مِن عُمرها.
سِيقت أُختي مِثْلما تُساق البَقرة إلى حَظيرة الجِيران المشهُود لِثورهِم بِفُحُولَتِه, لذلك كان القرويون في القرى المجاورة لقريتنا يقصدون صاحبه.. طَالِبين وِدهُ بِحفنات من المال, يُقدرها حَسب عَدد البَقرات! ولمِنْ لمْ يكن يَمْلكُ نُقوداً يطلب منهُ أن يبصم أو يخْتم بختمهِ على ورقة في حال أنجَبت البقرة ثوراً يَشْتَريهِ بِنصْف قِيمَتهِ أَو يدفع لهُ بالسمن طوال العام! ماتت أختي جَراء ولادة متعسرة بطفلة رفَضت جدتي استقبالها فهي مكتفية بِالمسؤولات التي عِنْدها.
عَندما كُنت صغيرة أَدرسُ في الصف الأول.. ضَجُرت المعلمة مني, وهي تنادي على اسمي فاطمة مسعود فاطمة مسعود فاطمة مسعود لمْ أَرد رغم نَظرات زَميلاتي المصوبة نحوي كأنها رصاصٌ لم يستطع أن يَخترق غَبائي ـ فَما كَان مِنها إلا أن ذَهبت للمديرة تُعلمها بالأمر. قَرأت المديرة الاسم كاملاً ثم قالت: أعتقد أن هُناك طَالبة في الصف السادس تحمل اسم هذه العائلة.. استدعت المعلمة الطالبة, وصَحِبتها معها إلى الفصل بعدما أنكرت تغيب أخته عن المدرسة منذُ اليوم الأول الدراسي. توجهت أختي إلي فور دخولها الصف, ثُم طلبت منِي أن أقف.
هذه هي أختي فاطمة, كما أَخْبَرتَها أَني أُحِب الدراسة, وأُذَاكر دُرُوسِي يومياً, و أَحِلُ الوَاجِبات دُون طَلب المُسَاعدة مِن أَحد. اقتربت المعلمة مني والدهشة تَعقدُ لِسانها, ونَظرات الاستغراب عبارة عن علامة تعجب!!! يَتَسَاقط قَطرٌ مَالح على وجها بسبب عطل المكيف, وغضبها الشديد من تَصرفي, سَأْلتني بِحَنق عن اسمي, رَددت ببراءة اسمي (قَرادَة) ضحك الفصل بمن فيهم أُختي والمعلمة.
رَجَعتُ إلى البيت نَادمة على البوح بذلك السر الخطير.. الذي لم يخطر في بالي أنهُ سوف يكون سَبباً في تحديد مصيري من وجهة نظر من حولي. سَمِعتُ جدتِي وَهِي تَقُول: رَجَعتِ يا قَرادَة! نَظرتُ إِليها بعين جامدة, ووَجه متجهم من شِدة الغَضب, ثم قُلت لها اليوم عَرفت اسمي الحقيقي في المدرسة إنهُ اسْمُكِ ذاته.. فَهل أَنتِ تحَمِلِين اَسْمِين يا: جدتي؟! ضَحكت قائلة لا: أنا كُنت وجْه الخير على أُمي فَقْد كان (عرقُوبي خَضر) أَنْجَبتْ أُمي بَعد وِلادَتي سَبعة مِن الرجال.. لمْ أفهم مَا كَانت تَتَحدث عَنهُ حَاولت أن أَسْتوضِح مِنها الأَمر إلا أنْها تَركَتني غارقة في حِيرتي.. بينما هي انصرفت لشؤونها.. ربما أنا صاحبة (العرقوب الغبر)! فأُمي لمْ تُنْجب بَعدي لا ولد, ولا بِنْت, وإنما ظَلت سنوات طويلة تَرقدُ في المستشفى!
حَمِلتُ أَثقالي, وقيودي إلى أمي.. التي لا تزال راقدة في المستشفى بعد ولادتي التي تسببت لها بغيبوبة طويلة لم تفق منها بعد.. كُنتُ أَقف بِجِوَار خَالتي التي طلبتْ مِني الجُلُوس, وعَدم الحَركة وفوق شِفتها وعِيد قُريش, وهلاك فرعون! خَالفتُ الأَوامر فَما كان مِنها إلا أن وجهت لي لسعة النملة في فخذي الصغير فَجَلست على جمرها.. الذي أَذاب رُوحي الصغيرة, فَلم أُحْدِث بَعد ذَلكَ حَركة أو أنبس بكلمة حتى عُدنَا إلى البيت. شَعُرتُ في ذلك الوقْت أن الجَمِيع يكرهني, ويلومني على أَشْياء لَيس لِي يَد فِيها وتظل تلك هي العتمة.. التي جُبلت عَليها عقول ساكني هَذا البيت.
أَعلن الدكتور وفاة أمي بعدما أصبح عمري ثماني عشرة سنة.. كان السواد المستقر في عين جدتي, وجاراتها العجائز.. أَشد عَتمة من لون اللباس الذي يَلبسونهُ. حَزنتُ كثيراً على فِراق أمي, وعلى وحدتي فلا أَحد يَكْترث بوجودي, ولا أَحد يواسيني, ولا أَحد يَقْترب مِني بعد رحيل أختي.. التي كُنت أُسرُ لها بأحزاني فَتسري عَني, وأسري عَنها ما يطوقنا من أوجاع القلب. شَعرت في ذلك الوقت أنني مَرضٌ مُعدٍ عَلى الجَمِيع أن يتجنبهُ! فَارقتْ رُوحي الحياة مِثلما فَارقت أُمي هذا العالم الفاني.. حَاولت أن أَحصل على شَيء من رائحتهَا وَإن كَان ثوباً قَديماً, أَو حِذاء, أو أيَ شيء إلا أن جدتي رفَضت بِحزم, ونَسفتْ حُلمي بأن أعيش على رائحة أمي.. التي حُرمتُ من سَمَاع صوتها, وحَنانها, وعَطفها.
أُمي.. التي لَم أَلمس أَطرافَها, أو أُقبل رأْسها, أو أرتمي بين أحضانها حتى عندما أُحضِرَ جُثمانها للبيت.. سُمح لِلجميع بالسلام عَليها إلا أنَا .. فاضَت عَيني بالدموع التي لمْ تُحَرك ذرة رحمة داخل جدتي.. التي نَفرت مِني بَعد ولادتي, وعَهِدت بي إلى خالتي.. التي كَانت تَتعوذ من شَري, وتحصن بيتها طوال الوقت بالملح, والحبة السوداء.. التي ترشها في أركان بيتها, وتبخر ملابسي بالشبة والمرة لدرجة أن زميلاتي تخنقهن رائحتي فيفررن مني طوال اليوم! فَكنت أَجلس وحدي وقت الفسحة, وفي البيت حتى عندما نذهب إلى مزرعة جدي كنت أتحدث مع الأغنام.. التي ترقص فرحاً عندما يفتح باب الحظيرة وتثيرني أصوات وأحجام البقر التي تدر الكَثير من الحَليب الذي تَصنع منهُ جدتي السمن البلدي وتَقوم على توزيع جزء منهُ بينما الحصة الكُبرى تقوم على بيعها في السوق الشعبي، حَيثُ تدفع بها لأم سعد التي تَقُوم بِبيعها على زبائنها حتى أَصبح سمن أم مسعود من أشهر أنواع السمن البلدي.. الذي يكثر عليه الطلب في الأسواق الشعبية.
نَظرات جدتي تُقيدني ما إن تراني حتى تَتوقف عن حلب البقرة, أو إعداد السمن وتطلب مني الذهاب إلى اللعب في مكان آخر فهل كنت أشكل لها مصدر خوف لهذه الدرجة؟! سَمعتها تقول لخالتي خُذي مَعك قرادة قبل ما تقرد علينا فيجف ضرع البقرة, أو تمرض بسبب نظراتها الشيطانية التي تلتهمها بعينيها الحادة كلما اقتربت منها! لا أوصيك خُذيها إلى الوادي تشوف جيف الحيوانات النافقة, ولا تخليها تروح صوب النخل, أو العنب فيصبح الصبح وهي يابسة! أفلتُ يَدي مَن يَد خالتي ركضت إلى الطريق, كادت سيارة الجار أن تصدمني إلا أن ربي لطف بحالي, لم تفرح جدتي بذلك, ولا خالتي زوجة شقيق أبي الذي مات قبل أن تلدني أمي بساعات قليلة! تَرجل الرجل من سيارتهُ, يَطمئن على صحتي, ثم انصرف وهو يقول: انتبهِي لنفسكِ أيتها الصغيرة.
أَول مرة في حياتي أشعر بشعور جميل يَختلف عن نيران الحقد والحسد التي كَبلت رُوحي مِنذُ وِلادتِي. حُضنهُ دافئ, وكَلماتهُ عَذبة كالشعر, وإن كان أجمل الشعر أكذبه, خاصةً أنهُ قال لي بِقلب عاشق مُنفطر لم تَخب نيرانهُ بَعد: أنتِ جميلة, كم تشبهين أمكِ. ظَلت تِلك اللحظة العابرة هي شمعة الأمل في حياتي.. التي أتوحد بها كلما ازداد ظلام الليل حولي. ذات مرة وأنا أقف أمام المرآة سألتُ نَفسي هل حقاً أشبهُ أمي في كل شيء؟ كَبرت فلم تعد لي حرية الطير في التنقل من مكان إلى مكان، حتى ذلك الرجل الذي التقط روحي من النار أصبح محرماً علي الحديث معهُ, أو النظر إليهِ من بعيد إلا أن قلبي يخالف تلك الأحكام الجائرة, وأنا أرى فيه صورة الأب الذي حُرمت منهُ.
تَنفست بِعمق عِندما سَمعت صوت بُكاء خالتي عند سماعها نبأ وفاة جدتي.. التي عَمرت أكثر من أمي. خَرجت خالتي من البيت مثل المجنونة, ولأول مرة تَتَرك باب غُرفتها مفتوحاً! دَخلت إلى مخبأها السري بِقلب وَجل أن تَتذكر أَنها نَسيت إَغلاق الغرفة, فَتَعود إلى البيت بسرعة. قَلبتُ نَظرات في أَرجاء الغرفة, وَقع بصري على صُندوق قَديم فتحتهُ لأجد بِداخِلهِ ثروة أمي.. التي حُرمت مِنها طوال حياتي.. سَرقتها ثم عُدت إلى غُرفتي بعدما أَغلقتُ الباب, ورَميت بالمفتاح في أقرب حاوية قمامة من البيت.
فتحت مُذكرات أمي التي كانت تَتحدث فِيها عن ذلك الرجل.. الذي أنقذَ حياتي بكلماته اللطيفة من الموت القهري بسبب قسوة جدتي. قرأت قِصة حُبهما التي بترت خطواتها عرقية زُجت بقلب أمي المطحون في أحضان أبي.. الذي اَمتصهُ دُون أن يُبالي بِذبولهِ.. شَعرت برجفة في يدي, وبمرارة في حلقي, وأنا أحمل تلك الأوراق لجارنا. مددت بها إليهِ بِصمت قاتل, تَصفَحها بِنيران الفقد, والحرمان المشتعلة في عينيهِ كتب فوق ورقة بيضاء قرادة ثم أحضر الفأس, وأخذ يحفر قبراً دفن داخلهُ تِلك الأوراق, وطلب مِني أن يَظل الموضوع سراً. وافقت على شَرط أن يخبرني عن معنى سبب تسميتي بِقَرَادة ذلك الاسم.. الذي أُجْلد بِسببهُ بِسياط من الجحود والنكران في اليوم ثمانين جلدة, وأكثر!
أخبرني بِصوت مُتَحَشرج: في اليوم الذي وَلدتِ فِيه حَدثت أُمور كثيرة سيئة, فقد أنجبتكِ أمكِ في يوم كان نحسهم, ولكن كُوني عَلى يَقين أَنني لَست مُؤمناً بِنسب ما حدث لهم بسببك, ولكن هم يعتقدون أن مجيء الأطفال بركة, وأنتِ بِقُدومكِ خَيبِتِ توقعاتهم! هجم الجراد على مزرعة جدتك فأَهلك الزرع, وحدث لِوالدك العائد من سفر حادث مروع توفي على أثره هو وابن عمكِ.. الذي كُتبت على اسمهِ ليكون زوج لكِ في المستقبل, أثناء وِلادتك فُصل التيار الكهربائي لأسباب لا نَعلمها مما اضطر أن تكون ولادتك المتعسرة تَحت ضوء خافت, واستعمال أدوات طبية ضعيفة لم تسعف شرايين قلب أُمكِ المتُعب.. فَدخلت في غيبوبة طويلة, مات زوج جَارتكم بسبب لدغة ثعبان, وكذلك نَفقتْ العديد من البهائم بسبب لدغات الثعابين التي يَكثُر خُروجها في فَصل الصيف! بعد ولادتك بساعات ذهبت جدتك وَجارتها قفلة إلى المستشفى, فَسمتك عَتمة, إلا أن جدتُكِ رَفَضْت ذلك، وأسْمَتك قَرَادة!
** **
- مسعدة اليامي