هناك عديد من المقاربات الفكرية للأبعاد الأولية التي تقف وراء تشكل أدب الطفل الخليجي في قالبه التكويني الذي نطالعه الآن والقائم بذاته. لعل من أبرزها هي تلك التي تعيد المكون البنيوي الأول لتشكل أدب الطفل لحكايات الجدات والأمهات في المجتمعات القديمة على اختلاف تنويعاتها الجغرافية وثقافاتها الاجتماعية.
إذ في حقب تاريخية بعينها عندما لم يكن هناك وسائل ترفيه وتوعية للأطفال كالتي نراها الآن، تشغل وقتهم وتسهم في توعيتهم وزيادة ثقافتهم عن المحيط المجتمعي الذي يحيون فيه ويتفاعلون مع مكوناته البنيوية، فقد كان هناك تلك الجلسات العائلية المسائية التي يتحلق فيها الأبناء والبنات حول الجدة أو الأم لينصتوا لحكايات تتناول الحيوان والطير وغيرهما من المخلوقات.
بل إن الأمر قد كان يستطيل ليشمل حكايات تتناول عوالم الجن والعفاريت وغيرها من الأساطير المرتبطة بثقافات الشعوب، وقد كان الأبناء من الجنسين يستوقفون الأم أو الجدة ليسألوا عن اسم أو وصف لمخلوق أو حدث ما قد حفلت به هذه الحكاية.
وهو مما يعد أحد السبل التثقيفية خاصة إذا تناولت هذه الحكاية شخصية محببة للأطفال من ألوان الطير أو الحيوان أو دارت حول فضيلة أخلاقية بعينها، إذ إن من خلال ذلك الحدث فإن الصغار يتحصلون على معلومة إثراءية تضاف بشكل آلي لحصيلتهم المعرفية العقلية.
وعلى الرغم من اعتبار تلك الحكايات التي تطرق مسامع الأبناء في الأمسيات العائلية في الماضي البعيد من سبل الترفيه وإلى حد ما من وسائل تعريف الأطفال بعديد من صفات وأسماء الحيوان، إلا أن لهذا الأمر جوانب سلبية بعينها قد تنعكس على الجانب النفسي للصغار.
من ذلك أن معامل الخوف والرهاب من حيوانات بعينها، قد يتصاعد في الذهنية الفاعلة للأطفال، خاصة حين تدور الحكاية حول عوالم الجن والشياطين والمردة وغيرها من تلك المسميات للكيانات التي لا تشكل وجودًا ماديًا ملموسًا أمام سمع وبصر الأطفال.
فتجد خيالاتهم تذهب بعيدًا في تصوير شرور وقبح هذه الكيانات المبهمة، ولكون الطفل لا يزال في مرحلة العمل على تكوين التصورات الأولية لعديد من الماديات ناهيك عن المجردات؛ فهو بالتالي يجهد عقله في إسقاط أقبح تصور قد يتولد في ذهنيته عن تلك المسميات المبهمة التجسيد.
وهو الأمر الذي يزيد بالتالي من تصاعد المد الشعوري لأحاسيس الخوف والهلع، فتكثر تلك الكوابيس والأحلام التي تأخذ بنفس وعقل صغار السن ربما لأعوام. كما تكثر حالات التبول اللا إرادي أثناء النوم جراء الخوف المتولد من تلك الحكايا، مع ما يصحب ذلك من توبيخ من قبل الوالدين، وهو الأمر الذي يزيد بالتالي الطين بلة، ويقود الوضع لمزيد من التعقيد.
أما تلك القصص التي يكون محورها الحيوانات الضارية والوحوش كالأسود والنمور والضباع والثعابين السامة القاتلة، مع ما يصحب ذلك من تصوير مبالغ فيه في وصف ضراوتها حين تواجه الإنسان وتعمل على تمزقه إربًا، قبل أن تقوم بالتهامه، فإن ذلك مما يزيد الأطفال نفورًا من بعض الحيوانات ويزيدهم كرهًا لها، ومجمل ذلك قد يتولد عنه تداعيات سلبية على الصحة النفسية للأطفال ربما تظهر كردات فعل لا إرادي في مستقبل الأيام.
أما أدب الأطفال بواقعيته الماثلة أمام أعيننا وبمفهومه الحالي فقد كانت بدايات ظهوره في الواقعية الأدبية الخليجية متأخرةً قليلاً عن باقي الدول العربية. إذ يميل الكثير من المشتغلين بالدرس النقدي، للقول بأن ظهور أدب الأطفال في الساحة الأدبية الخليجية، قد اتسم بالتفاوت بين جغرافية وأخرى حسب الظروف والإمكانات المتاحة آنذاك. فلو يممنا وجوهنا شطر دولة الكويت فسنجد بأن ظهور مجلة «سعد» في عام 1969م، قد كان يمثل منعطفاً محورياً في حضورية أدب الأطفال في الواقعية الأدبية الكويتية. فهذه المجلة قد حوت عديداً من القصص والأناشيد التي كانت تكتب بشكل جيد لتحوي جانب التربية والتثقيف إلى جانب الإمتاع الفني.
أما في مملكة البحرين فقد كان هناك اهتمام نوعي من بعض الأدباء في الاهتمام بشؤون الطفل واحتياجاته الأدبية والتثقيفية، يأتي على رأسهم الأديب الكبير عبدالقادر عقيل والأديبة حمدة خميس، إلى جانب الأديبة فوزية رشيد وغيرهم من الأدباء الذين وطن لديهم إن قضية تثقيف الطفل البحريني والتوجه إليه فكرياً وأدبياً هو أمر من الأهمية بمكان.
فهؤلاء الأدباء البحرينيون قد كانوا ينظرون إلى الكتابة للأطفال بصفتها ضرورة من ضرورات المجتمع وتطوره ومكانته بين المجتمعات الأخرى. وهذا التوجه قد أكدته الكاتبة حمدة خميس في مقولة له عن أدب الأطفال مفادها؛ إنه لو تراجع كثير من الكتاب عن الكتابة للأطفال وأصبحت الفكرة مجرد حماس، فإن أدب الأطفال سيفرض نفسه عند أكثر الأمم.
كما أن حضور المجلات الأدبية التي كان يقوم على تحريرها ثلة من الصحفيين المهنيين في مجال أدب الطفل، قد أدى لخلق واقع أدبيٍ جاد يعني بالطفولة في دول الخليج. من ذلك مجلة «ماجد» التي صدرت في عام 1979م في الإمارات العربية المتحدة. بالإضافة لمجلة «العربي الصغير»، التي صدرت في منتصف الثمانينات وتحديداً في عام 1986م في دولة الكويت. ومجلة «حسن» التي كانت تصدر كل أربعاء عن مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر بمدينة جدة، والتي صدر العدد الأول منها في 20 أبريل من عام 1974م. أما الامتداد الثقافي وتعزيز الوجود لهذا الجنس الأدبي الذي يقدم لأهم شريحة اجتماعية فهو ما سأسعى لتناوله في قادم الأيام.
** **
- د.حسن مشهور