يحظى عُنوانُ الكتاب في التُّراث العربيّ بأهميَّةٍ كبيرةٍ، وعِنايةٍ فائقةٍ، وهو الأصل الأوَّلُ، والرُّكنُ الأساسُ من أركان علم التَّحقيقِ، الذي كتَبَ على المحقِّق أن يُوْليَ بمفردات عُنوان الكتاب ورسمه وضبطه غايةَ التَّدقيق والتَّوثيق، ولا غَروَ في ذلك، فهو مِرآة مضمونه وفحواه؛ «لأنَّهُ أبرزَ ما فيه وأظهرَه»(1)، وله مِن المنزِلَةِ ما بوَّأهُ أن يكونَ فاتحةَ الكتاب ومدخلَه.
ومِن المعلوم أنَّ الغالبَ في العُنوانِ الصَّحيح في التُّراث العربيّ أنَّه لا يتعدَّدُ إلَّا بالأسباب المعهودة، تلك الأسباب التي تُسهِمُ في نُشوء ظاهرة تعدُّد عُنوان الكتاب الواحد، منها ما يرجع إلى المؤلِّف نفسِه كأنْ يُعنوِنَ لكتابه بأكثرَ من اسمٍ، كما فعل الشَّيخُ أبو الفضل المراديّ (ت1206هـ) الذي قال عن كتابه المشهور بـ (سلك الدُّرَر): «سمَّيتُه أخبار الأعصار في أخيار الأمصار، ويليقُ أيضًا أن يُسمَّى: سلكُ الدُّرَر في أعيان القَرن الثَّاني عشَر»(2). ومنها ما يتَّصلُ بالنُّسَّاخ حين يُلفُونَ الكتابَ غُفْلًا من العُنوان، إمَّا لأنَّ المؤلِّف تركَهُ بلا عُنوانٍ، أو لأنَّ صَفحة العُنوان التي نعتَها الدُّكتور عبد السَّتَّار الحلوجي بأنَّها أضعفُ صفحةٍ في المخطوط؛ قد سَقطتْ أو أُسقِطَتْ لسببٍ ما، فيتصرَّفُونَ فيه، ويَضعونَ من عند أنفسِهم من العناوين ما يَرونَه مُناسبًا على سبيل الظَّن والتَّخمين، ومُعبِّرًا عن الفحوى والمضمون؛ فيتعدَّدُ العُنوانُ بذلك تعدُّدًا قد يصل إلى ثمانية عناوينَ أو أكثر، كالذي حصلَ مع (رسالة في معرفة لفظ جلبي لأبي السُّعود أفندي ت982هـ)(3). فيتوهَّم أصحابُ الفهارس والأدلَّة أنَّ هذه العناوينَ كتُبٌ مستقلَّةٌ؛ فتطولُ بذلك قوائمُ آثار المؤلِّفينَ ومُصنَّفاتهم، ويشوبها الكثيرُ من التَّداخل والاضطراب.
ومن هذه الكُتُبِ كتابُ «ما اختلفت ألفاظُه واتَّفقت معانيه» للأصمعيّ (ت217هـ)، الذي حقَّقه ماجدُ الذَّهبيّ على نُسخة المكتبةِ الظاهريَّة الفريدة، في خمس لوحاتٍ، واصفًا إيَّاها بقوله: «يبدو أنَّ هذه المخطوطةَ وحيدةٌ في العالَم حسبما تبيَّن لي، فلم يذكرها إلَّا بروكلمان في (تاريخ الأدب العربيّ)، نقلًا عن (خزائن الكُتُب في دمشقَ وضواحيها) لحبيب الزيَّات»(4).
ولم يُعرِّجْ المحقِّقُ الفاضلُ على كتاب (المترادف) الذي سردَهُ ضمنَ آثار الأصمعيّ بشَيءٍ من التَّعقيب أو الذِّكر والإيضاح، ولم يُبِن الصِّلةَ بينه وبينَ ما هو بَصدد تحقيقه، على الرَّغم من أنَّ النِّسبةَ بين الكتابين نسبةُ العُموم والخُصوص المطلَق؛ إذ كلُّ مُترادفٍ هو ما اختلفتْ ألفاظُه واتَّفقتْ معانيه، وكلُّ أخيرٍ هو تعريفٌ للمترادف، فمَظِنَّةُ وَحدتِهما وتعدُّدِهما لمسمًّى واحدٍ قائمةٌ، وإنَّما اكتفى بالتَّعليق عليه بقوله: «تفرَّد الزِّرِكْلِيُّ بذِكره»(5).
واتَّفق لي أن اهتديتُ إلى نُسخةٍ أخرى لهذا الكتاب المنشور، بعُنوان آخَر هو «المترادف»، وإن شئتَ فقلْ: نُسخة من «المترادف» المطبوعِ بعُنوان «ما اختلفت ألفاظُه واتَّفقت معانيه»، مُخزَّنةٍ على ميكروفيلم بالرَّقم (1789) في عشرينَ لوحةً، مُصوَّرةٍ عن المخطوطة المحفوظة في دار الكُتُب القوميَّة تحت الرَّقم (248)، فطِرْتُ بها جَذَلًا؛ ظنًّا أنَّني قد عثرتُ على كتابٍ مفقودٍ من كتب الأصمعيّ، وطَفِقْتُ أفحصُها وأُقارنُ بينها وبين أُختِها، فتبيَّنَ لي أنَّها نُسخةٌ أخرى منها، شاء الله - جلَّ وعزَّ - لها أن تبقى بَعيدةً عن الاستقصاء والتَّنقير، وألَّا تمتدَّ إليها أيادي التَّحقيق والتَّحرير.
وهاأنذا أسوقُ بدايَتَي النُّسختَينِ ونهايتَيهما؛ تمثيلًا بهما على وَحدتِهما، وبُرهانًا على أنَّهما عُنوانانِ لكتابٍ واحدٍ لا كتابينِ كما تُوهِّمَ.
بداية نُسخة دار الكُتُب القوميَّة (المترادف)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وسلَّم وبه نستعينُ وبه التَّوفيقُ والعونُ
يُروى عن الشَّيخِ العدل أبي الغنائم محمَّدِ بن عليِّ بنِ ميمون النَّرسيّ رضيَ الله عنه ورحمه، في رمضانَ ثلاثة وخمس مئةٍ فأقرَّ به. قيل له: أخبرنا القاضي أبو عبدِ الله الحسينُ بن محمَّدٍ بن عثمانَ النَّصيبيّ قراءةً عليه فأقرَّ به. قال ابن أبي القيم إسماعيلُ بنُ سعيدِ بن إسماعيلَ بن محمَّدِ بن سُوَيدٍ قراءةً عليه، قال ابنُ الحسنِ بنِ دُريدٍ الأزديّ، قال: حدَّثني عبدُ الرَّحمنِ بن أخي الأصمعيّ عن عمِّه الأصمعيّ قال: يقال: طمحَ فلانٌ في السَّومِ، إذا استامَ أكثرَ ممَّا يُساوي، وتشحَّى في السَّوم، وأبعطَ، وشحطَ في السَّوم، كلُّ ذلك: تباعد َ. ويقال: أمرُ بني فُلانٍ أمَمٌ، إذا لم يُجاوزوا القَدْر، وأمرُهم مُؤَامٌ. ويقالُ للأمرِ إذا غلبَ واشتدَّ: انتشرَ ونشأ واشتغَرَ. ويقال: مصعَ الظَّبيُّ بذَنبِه ولَألأَ، ومَثَلٌ من الأمثالِ: لا أفعلُ ذلك ما لألأتِ العُفرُ الفُورُ. وهي الظَّباءُ، أي: لا أفعلُ ذلكَ أبدًا.
بداية نُسخة المكتبة الظَّاهريَّة (ما اختلفت ألفاظُه واتَّفقت معانيه)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم وبه الثِّقة والعون
قُرئَ على الشَّيخِ العدل أبي الغنائم محمَّدِ بن عليِّ بنِ ميمون النَّرسيّ رحمه الله، في رمضانَ سنةَ ثلاثٍ وخمس مئةٍ فأقرَّ به. قيل له: أخبرك القاضي أبو عبدِ الله الحسينُ بن محمَّدٍ بن عثمانَ النَّصيبيّ قراءةً عليه فأقرَّ به. قال: أنبأنا أبو القاسمِ إسماعيلُ بنُ سعيدِ بن إسماعيلَ بن محمَّدِ بن سُوَيدٍ قراءةً عليه، قال: حدَّثنا محمَّدُ بنُ الحسنِ بنِ دُريدٍ الأزديّ، قال: حدَّثنا عبدُ الرَّحمنِ بن أخي الأصمعيّ عن عمِّه الأصمعيّ قال: يقال: طمحَ فلانٌ في السَّومِ، إذا استامَ أكثرَ ممَّا يُساوي، وتشحَّى في السَّوم، وأبعطَ، وشحطَ في السَّوم، كلُّ ذلك: تباعدَ. ويقال: أمرُ بني فُلانٍ أمَمٌ، إذا لم يُجاوزوا القَدْر، وأمرُهم مؤامٌ. ويقالُ للأمرِ إذا غلبَ واشتدَّ: انتشرَ ونشأ واشتغَرَ. ويقال: مصعَ الظَّبيُّ بذَنبِه ولَألأَ، ومَثَلٌ من الأمثالِ: لا أفعلُ ذلك ما لألأتِ العُفرُ والفُورُ. وهي الظَّباءُ، أي: لا أفعلُ ذلكَ أبدًا.
نهاية نُسخة دار الكُتُب القوميَّة (المترادف)
... ويُقال: استحقَّهُ رال وازدهاه. ويُقال: نقدَهُ مئةَ دِرهَمٍ، وحَاءَهُ، وزكأَهُ، وسحَلَهُ. ويُقال: حبسَ الإبلَ في الدَّارِ أيَّامًا، ورَجَنَها، ورَبَدَها، وكذلك غَيرَها أيضًا. ويُقالُ: إنَّه لعظيمُ السَّنام، والفَخْذَةِ، والهوْذَةِ، والذِّروَةِ، والكَتْرِ، والعريكةِ، والشَّرفِ. ويقال للصَّيدِ: أشمَطَهُ بسهمِهِ، واختلَّهُ، واختزَّهُ. ويقال: وخطَهُ فلانٌ بالرُّمحِ، ووخزَهُ ووكزَهُ. ويقال: هذا مِن شُروطِ الرِّجالِ، ووَحْشِ الرِّجالِ، أي من الرُّذَّالِ، وكذلك في الإبلِ، والغَنمِ، والخَيلِ. ويقال: هذا تِرْبي وخِدْني، وخِلمي، سواءٌ.
نهاية نُسخة المكتبة الظَّاهريَّة (ما اختلفت ألفاظُه واتَّفقت معانيه)
... ويُقال: استخفَّهُ ذاك وازدهاه. ويُقال: نقدَهُ مئةَ دِرهَمٍ، وحَلاَهُ، وزكأَهُ، وسحَلَهُ. ويُقال: حبسَ الإبلَ في الدَّارِ أيَّامًا، ورَجَنَها، ورَبَدَها، وكذلك غَيرَها أيضًا. ويُقالُ: إنَّه لعظيمُ السَّنام، والقحَدَةِ، والهوْدَةِ، والذِّروةِ، والكَتْرِ، والعريكةِ، والشَّرفِ. ويقال للصَّيدِ: أشمَطَهُ بسهمِهِ، واختلَّهُ، واختزَّهُ. ويقال: وخطَهُ فلانٌ بالرُّمحِ، ووخزَهُ ووكزَهُ. ويقال: هذا مِن شَرَطِ الرِّجالِ، ووَخْشِ الرِّجالِ، أي من الرُّذَّالِ، وكذلك في الإبلِ، والغَنمِ، والخَيلِ. ويقال: هو تِرْبي وخِدْني، وخِلمي، سواء.
ما العنوان الصَّحيح أو الرَّاجح للكتاب؟
بقيَ ههنا أن يُقال إذا كان قد ثبتَ أنَّ العنوانَينِ مُسمَّاهما واحدٌ، فما العُنوان الصحيح أو الرَّاجح له؟
أقول: الذي يترجَّح لدينا أنَّ العنوان الجدير بالكتاب هو «ما اختلفت ألفاظُه واتَّفقت معانيه»؛ لأربعة أسباب:
أوَّلًا: لأنَّه العنوان الأشهرُ والأشيعُ، وبه خرجَت طبعتُه المحقَّقة.
ثانيًا: لكثَرة ذاكري الكتاب بهذا العنوان بصِيَغه الثَّلاث المتقاربة: (ما اختلفت ألفاظه واتَّفقت معانيه)، و(ما اختلف لفظه واتَّفق معناه)، و(ما اختلف مبناه واتفق معناه)؛ كابن النَّديم (ت385هـ)(6)، والأزهريّ (ت370هـ)(7)، والقِفطِيّ (ت646هـ)(8)، ومحمد رياض زاده (ت1087هـ)(9) وبروكلمان (ت1956م)(10).
ثالثًا: ولأنَّه أقدَمُ؛ إذ رجَّح الدُّكتور الذَّهبي أنَّ «السَّماع ودراسة أصحابه يدلَّان على أنَّ تاريخ النَّسخ هو القرن السَّابع الهجريّ»(11).
رابعًا: ولأنَّه أوثَقُ من العنوان الآخَر؛ لثُبوته على مَتن مخطوطِ المكتبة الظَّاهريَّة، أمَّا «المترادف» فليس فيه ما يُستدَلُّ به إلَّا ما كُتِب على ظهر الصَّفحة الأولى من النُّسخة، دون أن يكون ثمَّة دليلٌ يُحتجُّ به في اعتماده، أو نصٌّ يُركَن إليه غير ذلك؛ فالأرجح بل اليقين أنَّه من تسمية المفهرس؛ لوروده على صفحة بيانات الفهرسة، بالخطِّ عينه الذي خُطَّ به تلك البيانات، فضلًا عن كونه بخطٍ حديثٍ مخالفٍ لخطِّ الأصل.
فاجتمعت في «ما اختلفت ألفاظُه واتَّفقت معانيه» من الخصائص والمزايا ما افتقر إليه «المترادف» العنوانُ الآخَرُ؛ فكان حقيقًا به أن يكون هو العنوان الصَّحيح للكتاب. والله أعلى وأعلم.
... ... ... ...
= الهوامش
(1) مقاييس اللُّغة:4/20.
(2) سلك الدُّرَر في أعيان القرن الثَّاني عشَر:1/4.
(3) بتحقيقنا: مجلة آفاق الثَّقافة والتُّراث، السنة (24)، العدد (96)، 1438هـ/2016م:157-158.
(4) (5) ما اختلفت ألفاظُه واتَّفقت معانيه:10، 30.
(6) انظر: الفهرست:82.
(7) انظر: تهذيب اللُّغة:1/82.
(8) انظر: إنباه الرُّواة:2/203.
(9) انظر: أسماء الكتب:1/149.
(10) انظر: تاريخ الأدب العربيّ:2/149.
(11) ما اختلفت ألفاظُه واتَّفقت معانيه:12.
** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق- كركوك