ماذا عن التدوين؟... هل يمرُ يوم وأنت لم تكتب يا من لم تمس قلمًا منذ العام الفائت؟
- تبدو ذاكرتيّ المتدفقة بالكلمات، وتلك الأحلام التي تطرقُ أبوابَ قلبي اناءِ الحُبّ وأطراف الفراغ تاركةً مسحةً يقرأها من يستمع إليّ رابطًا الجُمل بعضها ببعض عبر عقدٍ فريد من الحياةِ الملفوظة؛ نهرًا وجوديًا غامرًا باللطف.
أوه، لقد انتصف الليل، لم أصنف كتابتيّ المترامية الأطراف بعد، ولم أرد على ثلاثمئةِ رسالةٍ تريد مِنيّ جوابًا وهي لا تعرفُ السؤال. أسعى في هذا الفراغِ الممتلئ جدًا لالتقط الشذراتِ النابتة هنا وهناك؛ الذهب الذي يضيءُ حياتيّ بمسحةِ وضاءة، مسلسلاً جسديّ عبر سلالةٍ تلم أركانها بالكلمات.
لم استطع المرور من هنا، رغم أن الأشياء وبوقاحةٍ فريدة تعبر مِنيّ للعالمِ، هل أصبحت باب هذا الوجودِ الذي يهفو إلى قصيدةٍ كتبتها؟ هذهِ الأشياء التي أُجمّعها تتحوّل وتُشكلُ وجهيّ مرةً أخرى للصدفةِ أراه عبر انعكاسِ سُحنتي على كوبِ قهوةٍ في مقهى يكتظ بالنّاس لكنه خاوٍ من الذكرياتِ التي تلوّن الأماكن بالدفء؛ إنه أشدُ الأماكنِ صقيعًا رغم أن المكيف بالكادِ يؤدي عمله المنوط. غريبة، تمر الكيانات حوّل بعضها لكن لا يشد أحد منهم لكمِ النزيف الشعوري الذي أخذها عبر اللقاءات، يمكنني أن أقرأ في كل عينٍ لهفة مُعلبة، ما أجبن الشعور المستورد مِن البعيد على مواجهةِ النبض الذي يقفز المراحل دون المرور بها. وبينما يتخطف النّاس والكائنات بعضهم دون حِس، أخذ نفسي عميقًا للخروجِ من تلابيب عينيّ التي يوجهها المكان لترى في الآخرين حقيقتهم..
أكتبُ شعوري على منديلٍ كُتب له أن يلم الكلماتِ من جوفيّ إلى برزخ الحياةِ التي نعرفها لتُفصل من بينِ توالدٍ يُغير قوامها إلى ولاداتٍ تُصير معناها زلالاً في عيون من تحسن قلوبهم القراءة. أتلمسُ عبوري الصامت في كوبِ القهوةِ الباردة بالأزهار وهو يلتهمُ لُبيّ ويأخذ بجناني والرياض لمنطقةٍ بكر بالعالمِ؛ ما أحلى الرياض مغطاةً باللونِ الكرزي الذي يحجبُ اشتعال درجة الحرارة بجذوةِ حُبّ يلم الأطراف، ويصهر وجدًا قد نما عبر السنين في الكلمات.
أمدُ يديّ مصافحًا شوارع الرياض؛ ليتدفق بيّ الربيعُ، هذهِ الخضرة العمّة تحضنُ قلبي ليزهرَ جُملاً أخاذة؛ فإذا بيّ استشعر الكلمات الساعية في جسديّ وقد أصبحت رأي الفؤاد والعيون.
هذه المساحة التي تنتمي ليّ قد نبضت كرّة بعد أخرى، وهي التي ما زالت تأخذ بتلابيب أدبي إلى مناطق عميقة السويداء، وهي التي سافرت عبر الزمانِ والمكانِ لتقر في بيوتٍ ومكتباتٍ كثيرة والآن تعودُ عبر السُحن المودة، راسمةً التاريخ، وصاقلةً العِبر عبر اللغةِ؛ ذلك المكنون الذي يمسُ فيّ التحولات فأغدو إليها أشدُ عشقًا وأبلغ مرادًا... لذلك يعاد تفسير الوجود في تهادي المعنى بين الحروفِ ذات الرغبة بالالتحام ببعضها، وإلى ذلك المكان العميق الذي يجمعنا بطينتنا الأولى بمن نُحبّ أو لا نحب...بذلك نلقى أنفسنا بأشكالٍ كثيرة، وتصير ذواتنا عملاً فنيًا مسبوكًا عبر رحلتنا في تحسس الجمال ووعيه في نفوسنا.
إنها لرحلة وافرة بالحُبّ والخير، بالمال والمآل، وبنصرة نفوسنا في الآخرين، في الحُب الذي يلم الأشياء إليه لتحسن وتزدهر، وتعطي وتدهّر، ويبقى منها في النفوسِ شذرات وعبرات يعود إليها المُحب ويستزيد منها الباحث. لقد عدتُ ياكلماتيّ، لألمس فيك وجوديّ؛ حياتي المشرقة، وصيرورةً ما زالت في عبقها ذات سندٍ مُسلسلٍ في السماءِ، في الغيومِ التي أرى قلبيّ وقد نبت منها.
** **
- هيثم البرغش