تقديم المترجم: هنا ورقة نوعية للمستشرق الهولندي الراحل البروفيسور يوهانس يانسن (1942 - 2015). ونشرت هذه الورقة في نوفمبر 1986. حصل يانسن على الدكتوراه في اللغة العربية عام 1974 من جامعة لايدن الهولندية. أقام في مصر منذ عام 1966 ثم عمل، لعدة سنوات، مديرا للمعهد الهولندي في القاهرة. ومنذ عام 1983، أصبح أستاذا مشاركا للدراسات العربية والإسلامية بجامعة لايدن في هولندا. وتُرجم أول كتبه «تفسير القرآن الكريم في مصر المعاصرة» إلى البوسنية والتركية والعربية والإندونيسية. أصدر يانسن 13 كتابا في الدراسات الإسلامية. كما أنه مؤلف ترجمة لمعاني القرآن باللغة الهولندية. ويقوم يانسن هنا بحفريات فكرية تحليلية في عقل الإرهابي التكفيري شكري مصطفى زعيم «جماعة المسلمين» المصرية والتي سميت إعلامياً «جماعة التكفير والهجرة»، وكانت تسمى أيضاً «جماعة الدعوة والهجرة». ومن المعروف كما سيرد في الورقة أن شكري مصطفى اعتقل وهو طالب بكلية الزراعة بجامعة أسيوط بتهمة توزيع منشورات جماعة الإخوان المسلمين. وكان شكري أحد شباب جماعة الإخوان المسلمين الذين اعتقلوا من صيف عام 1963 حتى صيف 1971، عند أخرج السادات الإخوان من السجون.
ودعا شكري لإلغاء المذاهب الأربعة لكونها بدعة، كما قام بتكفير غير المنتمين لجماعته. وكانت جماعة التكفير والهجرة قد قامت في يوليو 1977 بخطف ثم قتل وزير الأوقاف المصري الأسبق الشيخ الدكتور محمد حسين الذهبي، وهو عالم ومفكر إسلامي فذ ومرموق وغزير الإنتاج، ويعد أحد أهم رموز المؤسسة الدينية الرسمية المصرية.
ومن أهم مؤلفات الشيخ الذهبي: التفسير والمفسرون، الوحي والقرآن الكريم، الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم دوافعها ودفعها، تفسير ابن عربي للقرآن حقيقته وخطره، الإسرائيليات في التفسير والحديث، أثر إقامة الحدود في استقرار المجتمع، عناية المسلمين بالسنة، مدخل لعلوم الحديث والإسلام والديانات السماوية، وغيرها من الكتب. وأدى اغتيال الذهبي إلى قيام الشرطة باعتقال شكري مصطفى وكبار معاونيه ثم محاكمتهم في محكمة عسكرية ومن ثم جرى إعدامهم كما قضت المحكمة. وشككت بعض الصحف والمجلات العربية المستقلة مثل مجلة الحوادث اللبنانية في صحة الرواية الرسمية المصرية عن خطف واغتيال الشيخ الذهبي وكانت تقصد - ضمنياً - أن الشرطة المصرية ماطلت وتلكأت «عمداً» في ملاحقة الخاطفين حتى يقتلوا الذهبي بالفعل لكي تستخدم الحكومة هذا المبرر لتحقيق هدف سياسي كبير لاحقاً يتمثل في قمع جميع التيارات الإسلاموية المزعجة للدولة الموجودة في المشهد المصري. وهذا ما تحقق بالفعل في الشهور والسنوات التالية. (العيسى)
( 13)
الرأي المقبول بين الأصوليين الإسلامويين هو وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية بكاملها في كل من الحياة العامة والخاصة لأن الله أمر بذلك. ولكن القوانين لا تُتَبَعْ إلا عندما تطبقها الحكومة وتعاقب من يخالفها، ولذلك من الضروري إقامة دولة إسلامية وحكومة إسلامية لتنفيذ شريعة الله. ولا يمكن إقامة الدول إلا بالقوة، ولذلك فإن استخدام القوة مُبَرَرٌ إذا كان ذلك يساعد على إقامة دولة إسلامية وحكومة إسلامية. سلطة الدولة والحكومة هي التي تضمن التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية في شكلها الكلاسيكي.
ويتبع طريقة التفكير هذه جماعة الإخوان المسلمين وقتلة السادات وعدد كبير من المفكرين والناشطين المسلمين المعروفين أو المغمورين. ولكن شكري لم يؤمن بهذا التفكير. ومع ذلك، فقد كان شكري أحمد مصطفى هو الذي ضُحِيَ به، وشُنق، مع عدد من أتباعه، من أجل تسهيل تبرير النظام المصري لمحاولة لاحقة لقمع حركة إسلاموية سلمية ولكنها أكثر خطورة.
ومن المستحيل ألا نتساءل إذا كان قليل من الحرية الدينية التي انتشرت في أوروبا وأمريكا الشمالية ربما كان يمكنها أن تنقذ حياة كل من الذهبي وشكري... وربما أيضاً تغيير تاريخ الأصولية الإسلامية المعاصرة!!
وبعد إعدام شكري مصطفى في 29 مارس 1978، نشرت جريدة الأخبار المصرية التقرير التالي بدون اسم المؤلف:
شكري مصطفى أعدم..
ولكن هل انتهت جماعة التكفير والهجرة؟
بعد بزوغ جماعة التكفير والهجرة، طالب كبار العلماء أعضاء المكتب الفني لنشر الدعوة الإسلامية بوزارة الأوقاف أن يضعوا كتيباً يدينون فيه أفكار هذه الجماعة المتطرفة، وتصدي الشيخ الدكتور حسين الذهبي لتلك المهمة فألف كتاباً بعنوان «قبسات من هدي الإسلام»، ونشر عام 1975 وفند فيه مبادئ جماعة التكفير والهجرة وأوضح مدى بعدها عن جوهر الإسلام بمبادئه السمحة العفيفة، وقال في مقدمته: «يبدو أن فريقاً من المتطرفين الذين يسعون في الأرض فساداً، ولا يريدون لمصر استقراراً، قد استغلوا في هذا الشباب حماس الدين، فآتوهم من هذا الجانب، وصوروا لهم المجتمع الذي يعيشون فيه بأنه مجتمع كافر، تجب مقاومته ولا تجوز معايشته، فلجأ منهم من لجأ إلى الثورة والعنف، واعتزل منهم من اعتزل جماعة المسلمين، وآووا إلى المغارات والكهوف، ورفض هؤلاء وأولئك المجتمع الذي ينتمون إليه لأنه في نظرهم مجتمع كافر!!».
وتحدث الكتيب عن معنى الإيمان في الإسلام، وقال: إن أحكام الإسلام تجري على كل من ينطق بشهادة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وليس لنا أن نبحث في مدى صدق شهادته، فذلك مرتبط بما استشعر بقلبه، وهو أمر لا سبيل للكشف عنه أو التثبت منه، فهو من شأن الذي يعلم السر وأخفى. والمجمع عليه من أهل الإسلام أن الذي يعصم ماله ودمه بالشهادتين فهو المسلم، وأن من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه مثقال ذرة من خير ليس مشركاً، والكافر والمشرك سواء، بل لقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبعد من ذلك، فقد قبل إسلام الناس الذين دخلوا في دين الله أفواجاً من العرب المستعربين ومن الأرقاء، دون إجراء ما يفيد التأكد من أن كل فرد منهم قد فهم معني الشهادتين، فليس هناك اشتراط أن تكون أعمال الشخص مصدقة لشهادته حتى يحكم بإسلامه وعدم كفره، إن الشخص يعد مسلماً في ذات اللحظة التي ينطق فيها بالشهادتين، وقد كان أبو طالب عم النبي يحتضر على فراش الموت والرسول عليه الصلاة والسلام يلح عليه أن ينطق بالشهادتين حتى يشهد له بها عند الله.
( 14)
وشدد الكتاب على «أن مرتكب الكبيرة ليس كافراً، فعلى الذين يوزعون الإيمان والكفر على الناس، أن يراجعوا أنفسهم مرات ومرات، وإلا باءوا بإثم ما رموا به غيرهم؛ عملاً بقول الرسول الكريم «لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك»، وأن من أهم أسس الدعوة الإسلامية، أن يتحسس الداعي أدواء المجتمع وينصت لشكاياته ولا يضيق بها ولا ييأس من علاجها؛ ولذلك فإن فراره من الميدان هروب من الواجب، وتلك نقيصة لا تقبل من أصحاب الدعوات وجريمة في حق المجتمع لا يرضى عنها الله. وأن من أسس الدعوة الإسلامية أيضاً الموعظة الحسنة، فهي لون من ألوان الحكمة ومظهر من مظاهرها، وأن هذه أفكار ضالة وخاطئة، وأن هؤلاء شباب حديثو السن وقليلو المعرفة والخبرة، ولا يجوز أن نحاربهم. وإنما يتعين أن نهديهم إلى سواء السبيل، وأن نعلمهم حقيقة الإسلام. انتهى كلام الشيخ الذهبي.
وقبيل اغتيال الشيخ الذهبي قابل أحد المنتمين لجماعة التكفير والهجرة في مؤتمر عام عقدته وزارة الأوقاف، وهدد أحدهم الشيخ في ذلك المؤتمر قائلا: «أنت دخلت معنا في معركة»، فرد الشيخ: «ولماذا المعركة ولماذا لا نتناقش الحجة بالحجة ونعلي لغة العقل؟». لكن الشاب أصر على كلامه.
خطف الشيخ الذهبي
وفي فجر يوم الأحد الثالث من يوليو لعام 1977، اقتربت سيارتان من باب فيلا قديمة من طابقين تحيط بها حديقة صغيرة وسياج حديدي مدبب في منطقة هادئة ومعزولة بشارع السايس بحدائق حلوان. وتوقفت السيارة الأولى أمام باب الفيلا مباشرة، والأخرى على بعد عدة أمتار وأطفئت أنوارها. وقفز من السيارة الأولى خمسة أفراد بملابس الشرطة وملابس مدنية أحدهم ضابط برتبة رائد وفي يد أحدهم مدفع رشاش وتقدموا نحو الفيلا وطرقوا الباب بعنف.
استيقظ جميع من بالفيلا وأضيء الطابق الأرضي، حيث ينام الجميع. ومع توالي الطرق، فتح الباب الابن الأكبر الدكتور حسين، الطبيب المقيم بالقصر العيني. دفعوه، وانطلقوا مسرعين إلى الداخل، وردد قائد المجموعة أحمد طارق عبد العليم:
- إحنا مباحث أمن دولة فين الشيخ حسين الذهبي؟
قبل أن يجيب، فتح باب غرفة داخلية وخرج الشيخ بملابس النوم مذعورًا، ليرى أمامه الخمسة وقد شهروا أسلحتهم، فسأل: ما الخبر؟ فجاءه الرد بخشونة بأنه مطلوب للتحقيق. وعندما سأل عن السبب، طلبوا منه أن يلبس ملابسه بسرعة، وهناك سيعرف كل شيء. وقبل أن يخرج معهم، حاول الشيخ أن يهدئ من روع أبنائه وأمهم، بأن أخبرهم أن ثمة خطأ في الأمر وأنه سيعود سريعًا.
تحركت السيارة الأولى بسرعة حاملين معهم الشيخ في الكرسي الخلفي، بينما حدث عطل مفاجئ في السيارة الثانية، فلم يتمكن سائقها من تشغيلها. وعندما خرج الابن الأكبر مسرعًا وراءهم استعان ببعض المصلين من المسجد القريب للفيلا بالإمساك بقائد السيارة والاتصال بالشرطة. وتبين فيما بعد أن السيارة المتعطلة رقمها 28793 ملاكي القاهرة وأن سائقها هو إبراهيم محمد حجازي أحد أفراد العملية ووجد بداخلها مدفع رشاش ومسدسين.
في الطريق، سأل الشيخ مرّة ثانية عن سبب القبض عليه، أجابه أحدهم بتهكم: لكونك على علاقة بجماعة التكفير والهجرة، فأخذ الشيخ يردد كيف تقولون ذلك؟ إنني ضد أفكارهم على طول الخط، وقد ألفت كتابًا في الرد عليهم وإبطال حججهم وإنني متبرئ منهم إلي يوم القيامة..
يتبع
** **
ترجمة وتعليق: د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com