ملمح حضاري وثقافي أن ينهض العمل الثقافي بتكريم الرُّواد وحملة مشاعل التنوير وناشري الوعي والثقافة في أوطانهم في حياتهم؛ نعم في حياتهم، ما يعني الإيمان الحقيقي بدور هؤلاء الرواد وشُداة الفكر وصائغي الوعي والتنوير في مجتمعاتهم؛ فلا يليق بنا كمثقفين ومهجوسين بالمعرفة وصناعة الإنسان المتدرّع بالوعي أن نوصم بأننا مجتمع دفَّان. من حق المثقف والأديب الذي نذر قلمه وحياته أن يُكرَّم في حياته لا أن ننتظر رحيله لنقوم بتأبينه وتعداد مآثره ولوعة الغياب التي خلَّفها.
من هنا فإنني أشعر بجذل كبير أن يفطن هذا الملف لقيمة رائد من رواد الثقافة والفكر لدينا بهذه القيمة والتقدير؛ فالأديب والكاتب والناقد والشاعر الأستاذ علي بن خضران القرني؛ هذا المثقف الموسوعي ذو المشارب الفكرية والأدبية المتنوعة خَليق بهذا الاحتفاء والتقدير. ليس لأنه من نهض بأعباء فكرية وتعليمة وجهود ثقافية مبكّرة؛ بل لأنه نذر ثلثي حياته للكلمة الراقية ذات السُّمو والأثر المجتمعي الخلاّق. إن الأديب علي خضران القرني جمع إلى فضيلة النبوغ المبكّر حصافة الفكر والرؤى ونشر المعرفة والمساهمة في بث الوعي في مجتمعه مبكراً. وهو من جيل لم يتعاملوا مع الثقافة من برج عاجي منفصم عن الواقع والمجتمع؛ بل إنهم نزلوا إلى ساحة الفرد وتلمّسوا همومه وهواجسه وآماله وطموحاته ونقلوا عبر حروفهم للمسؤول وكان لكتاباتهم ونداءاتهم عبر زواياهم الصحفية الأثر الجلي في إيصال أصواتهم والمساهمة في التغيير لما هو أفضل.
إن الكاتب والمثقف علي خضران القرني ممن أثروا الساحة الأدبية والثقافية بشكل واضح؛ فهو ممن ساهم في رسم وصياغة المشهد الأدبي؛ بل ممن صنعوا ألقه وكانوا بحق؛ عاملي معرفة وصانعي وعي وفكر في مجتمعهم، ورسّخوا المشهديّة الفكرية والثقافية من أجل صياغة مجتمع متوازن فكرياً وإنسانياً وثقافياً قادر على مجابهة التحديات العصرية وفق سلّم قيمي محصّن بالوعي والاستنارة.
والحديث عن جهود الأديب والكاتب علي خضران القرني يبدأ ولا ينتهي؛ فالرجل اجترح آفاق النقد والشعر والرواية والمقالة الاجتماعية وكان - ولا يزال- من فرسان الكلمة الراقية ذات الأثر العميق الذي يحفر جسد قضايا المجتمع وهموم أفراده بوعي حصيف ورؤية متبصرة واستشرافية. أما الجهود النقدية التي تتعاطى مع فنون السرد والنثر عموماً والشعر فلعل نظرة سريعة على مؤلفاته العديدة تضع قيمته الفكرية والنقدية على خارطة الأدب والنقد في بلادنا بكل استحقاق وجدارة؛ فعلى سبيل المثال موسوعته الموسومة بـ «من أدباء الطائف المعاصرين»، ومختاراته الشعرية «أبها في مرآة الشعر المعاصر»، وكتاب «خطرات فكر في رياض الشعر والنثر»، وكتابه النقدي «قراءات عابرة»؛ هذه الكتب بعناوينها باذخة الجمال عميقة المحتوى تعطي ملمحاً صادقاً وواقعياً ضمن ملامح عن قيمة هذا الطود الفكري الشامخ الأديب والمفكر علي خضران القرني الذي اكتفى بمعاقرة الكلمة والحروف والانغماس بوعي في هموم وطموحات وطنه ومجتمعه دونما انتظار تشجيع أو احتفاء منطلقاً في ذلك من روح كبيرة معطاءة كما هو فكره وأدبه وقلمه.
** **
عبدالله الحسني - كاتب ومدير تحرير صحيفة الرياض