تاريخياً إذا كان للفن هناك من منشأ، فهذا معناه أنه ليس «غريزة». وإذا كان الفن غريزة كالأكل والشرب، فهو لا بد أن يكون لدى الناس جميعاً!
فد يقول قائل: الفن ليس غريزة ولا معطى تاريخيًا، إنما «موهبة»! وعندما تسأله: ما هي الموهبة؟ إما أن يفرك أذنيه ولا يجد جواباً، أو أنه يعطيك كلاماً ليس له معنى! وما أكثر الكلام الخالي من المعنى و»الروح»!
في اللغة الموهبة هي كلمة مشتقة من الفعل وهب. أي وهب؛ يهب؛ فهو واهب؛ والمفعول به «موهوب». إذن «الموهوب» اكتسب «الموهبة» من طرف آخر!
قد يقول قائل: «الموهبة من الله!»؛ وهذا قول «حق»؛ فكل شيء في التاريخ والجغرافيا من الله سبحانه. ولكن لو نأخذ هذا المعنى كما يطرحه «التراثويون»؛ أي جعل النص «مطلقاً»؛ ولا يجوز فهمه إلا بصفته «المطلقة»؛ فالأمر هنا يتناقض مع التاريخ والجغرافيا؛ ومع مشيئة الله عز وجل! ... كيف ذلك؟
أولاً - لو عاش البشر منذ آدم عليه السلام أسيرين لهذه المقولة التراثوية المطلقة، لما تقدمت العلوم والتكنلوجيات و»الفنون» بكل أنواعها، وكذلك المجتمعات والدول، ولم يكن هناك تاريخ ولا جغرافيا! لأن في هذه الحالة؛ لا يسعى البشر للتقدم والازدهار؛ ويبقون ينتظرون الأكل والشرب والتغيير من عند الله وحده؛ وبذلك يصبح العمل والتطور الإنساني «حرام» شرعاً!
ثانياً - يقول ابن رشد في تفسيره للأيات
{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(الغاشية 17-22) يقول ابن رشد بما معناه: «إن مشيئة الله تتطلب إعمال العقل»؛ وأن تجميد العقل حرام شرعًا؛ والسيطرة على العقل لا تجوز حتى للنبي؛ حسب الآية؛ فكيف يحاول «الترثويون» السيطرة على عقول البشر وتجميدها وتلقينها كما يشاؤون؟
يثبت هنا ابن رشد؛ الذي غيبت فلسفته وتُغَيّبُ إلى يومنا هذا؛ أن الطريق المؤدي إلى ازدهار الإنسان؛ هو العقل! والعقل مبني على التجربة؛ والتجربة مبنية على العمل! والعمل يتطلب جهداً و»مهارة»؛ والمهارة هي «فن»! ويتطلب العمل كذلك «خبرة»؛ أي تراكم تجربة؛ أي تاريخ؛ وتبادل خبرة ومعرفة؛ أي جغرافيا؛ وعيش مشترك بدون «قتل»!
ليس اعتباطاً أن يقال في «علم الجَمال»: الجمال هو تحقيق لـ «المنفعة»؛ فليس المقصود بالمنفعة هنا هو جمال «المرأة»؛ إنما جمال الصنع والأداء؛ أي «العمل»؛ وجمال الروح؛ أي الفن؛ وجمال العيش المشترك؛ أي «السلام مع الآخر»؛ والأخوة معه ومحبته! وهذه المنفعة التي جعل بسببها التراثويون من علم الجمال والفلسفة كلها؛ مثاراً للسخرية؛ إلى درجة «تحريم» الفلسفة؛ وقطع رأس من يفكر!
إذن العمل وازدهاره وتطوره والنزعة نحو الإنجاز الأفضل والازدهار الإنساني، هو الأصل الذي أنشأ «الفن»!
** **
- د. عادل العلي