(1)..... لم تكن الطائف – عروس المصائف – مدينة الورود بخيلة في عطاءاتها الثقافية. فقد أمدت الثقافة العربية منذ آمادها التاريخية وحتى اليوم بأسماء أدبية ومقامات ثقافية، وبطولات سياسية، سجلها التاريخ بمداد من ذهب. وعلقها أيقونات مباركات في سماء المعرفة والإنجاز.
لم تكن الطائف – وأنا الذي أعرفها طفلاً وشاباً وكهلاً – مدينة الندى والورد والسحر والجمال فقط، بل كانت وما زالت مدينة العطاء الثقافي، والنباريس الأدبية والتفاعلات الاجتماعية.
أذكر الثلة المباركة الذين تنادوا لتأسيس مركز أدبي / ثقافي سمي – فيما بعد- النادي الأدبي الثقافي بالطائف وكان من أبرزهم الشاب – آنذاك- علي بن خضران القرني الذي نشأ عصامياً يترقى في مجالات الفكر والأدب، ويتكون ثقافياً على المدارسات والمقابسات حتى تمكن وأصبح اسماً يشارك في التأسيس ويحوز على العضوية بمرتبة نائب الرئيس!!
(2) والعصامية تولد العزيمة والشجاعة والقوة وتواجه التحدي بأساليب الجزر والمد والكر والفر للوصول إلى الغايات والأهداف السامية. وكان علي خضران القرني أحد هؤلاء العصاميين بدأ حياته متمدرساً على التعليم النظامي في كل من مكة المكرمة حيث الحرم والحصوات ومشايخها الثقات. وفي الطائف حيث مسجد ابن العباس ودار التوحيد والمعاهد العاليات وفي الرياض حيث دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ورموزها المعاصرين يومذاك... من كل ذلك نهل المعرفة، وانسكب في ذاته حب الثقافة والأدب والكتابة فكانت له الصحف والمجلات المحلية والعربية ميداناً لقلمه المبدع وذائقته النقدية الانطباعية، ورأيه الاجتماعي المؤثر، فساح وجال في العديد من صحفنا السيارة (البلاد – المدينة – الندوة (يوم كانت) – الجزيرة - حالياً) ومنحت له (مجلة المنهل) صفحاتها ليكتب شعراً ونقداً ورأياً ثقافياً جمع بعضها في كتابه الطليعي: صور من المجتمع والحياة الذي أصدره مبكراً عام 1397هـ وكتابه الرائع: قراءات عابرة – ودراسات أدبية، الصادر عام 1424 هـ وآخر إنجازاته ذلك الكتاب النقد/ شعري الموسوم ب: قراءة في الأعمال الشعرية للأديب الشاعر د. سعيد عطية الغامدي.
ولعل سنام جهوده الكتابية، والدال على قدراته التأليفية ذلك السفر الموسوعي الذي وثق لأدباء الطائف والتعريف بهم، حيث بلغ عدد المشمولين في هذه الموسوعة 115 شخصية ثقافية (طايفية) المولد والنشأة والانتماء ومنهم (10) شخصيات نسائية / مبدعات وأديبات.
وهذا الكتاب / الموسوعة صدر في طبعته الأولى عام 1410هـ والثانية عام 1434هـ. وقد أشار – مشكوراً- في مقدمة الطبعة الأولى إلى أن الكتاب صدر مبدئياً في صورة بحث مصغر طلب منه لمجلة المنهل حيث أصر رئيسها – آنذاك – عبدالقدوس الأنصاري رحمه الله أن يتولى أحد أدباء الطائف التعريف بأدباء الطائف في ملامح وجيزة لنشرها في العدد السنوي الممتاز من مجلة المنهل الشهرية ولم يكن إلا ضيفنا هذا علي خضران القرني – والذي كان كاتباً متواجداً على صفحات المنهل – ليقوم بهذه المهمة الكتابية / الأدبية وقد حدد أهدافه وغاياته من تأليف هذا الكتاب في الثلاثية التالية:
1- الإسهام في النهضة الثقافية التي تعيشها بلادنا السعودية.
2- توفير مرجع أدبي يستفيد منه الباحثون والدارسون.
3- التعريف بازدهار الحركة الأدبية المعاصرة بمدينة الطائف.
ومن خلال تصفح هذه الموسوعة يدرك القارئ كم من الجهد الفكري والتتبعي والتعريفي الذي بذله المؤلف لإنجاز هذا الكتاب في طبعته الثانية المزيدة والمنقحة ليصبح إحدى علامات المشهد الثقافي السعودي في العهد المعاصر.
(3) ولعل ذاكرتي الثقافية تسعفني بما عرفته عن هذا العصامي الأديب، فقد زامله والدي – رحمه الله- في تعليم البنات بالطائف حيث كان مساعداً لمدير تعليم البنات ووالدي حسن العارف موظفاً في هذه الإدارة وقامت بينهما علاقات شعرية وثقافية وأدبية من خلال عملهما المشترك في هذه الإدارة الحكومية.
كان الوالد -رحمه الله- يحدثني دائماً عن علي خضران القرني الأديب والكاتب والشاعر ويدلني على كتاباته الصحفية ومقالاته النقدية للإفادة منها، وكنا نجتمع كثيراً في المسامرات الثقافية والصوالين الأدبية والملتقيات الفكرية فتزداد أواصر الصداقة والمحبة لروحه الإنسانية، وثقافته العالية، وتشجيعه المستمر وأخلاقه الثقافية العالية فلا تجده إلا مستمعاً مصغياً، ومتحدثاً لبقاً لا يدخل في خصومات ولجاجات ثقافية، يكتب شيئاً من النقد الجمالي والانطباعي بروح سمحة، وثقافة منفتحة وتشجيع وتحفيز لا يأتي إلا لمثل علي خضران القرني.
يقول عن والدي في تقديمه لكتابي: المختار من القصائد والأشعار للشاعر حسن محمد العارف الصادر عام 1437هـ: «كان العم حسن من عشاق القراءة وقول الشعر وله في ذلك تجارب ناجحة وكثيراً ما كان يهدي إلي ويطلعني على بعض قصائده الجميلة المعبرة في الهدف والمدلول «ص20» ويقول أيضاً: «لفت نظري في هذه المختارات قصائده الإخوانية التي تنم عن حس إنساني راق، كما لفت نظري قصائده الوطنية في حب بلاده ومملكته السعودية ودورها العربي والإسلامي في نصرة الحق والجار فها هو يصفها بالواحة الفواحة والسعد لزائرها والقبر لغازيها..»ص 22».
هذه اللفتات الأخوية والفنيات النقدية الانطباعية تجعلني أصف هذا الأديب النابه علي خضران القرني بأنه انطباعي المنهجية النقدية / بوعي مستنير لأبعاد المادة المنقودة. وتفاعل إيحابي وإنساني تجاه ما يقرأ، متزوداً في ذلك من ثقافة موغلة في التراث قراءة واستيعاب وتمثلاً فتفيض من ذاكرته ويكتبها قلمه في جماليات لغوية باذخة.
ويؤكد ذلك ما قرأته أخيراً في صحيفة الجزيرة الثقافية الجمعة 16 ابريل 2020م في دراسة نقدية له عن ديوان (نهر المحبين) للشاعر السعودي الدكتور سالم بن رزيق، إذ يقول فيها:
«إن الشاعر يمتاز في مسيرته الشعرية بالنزاهة والوقار والعفة والأحاسيس المرهفة في أخليته وعاطفته وأسلوبه ورؤاه. والتزام الشاعر هنا لم يفقده العواطف والجماليات البديعة بعيداً عن النظم الخالي من مقومات الجذب والإبداع الأخاذ».
ويقول أخيراً (ديوان نهر المحبين) يمثل أنهراً تفيض بالمعاني السامية والأحاسيس المرهفة. يظل يرتوي من معينه العذب كل ظامئ يتوق للمعاني الحالمة والمناحي الجاذبة...»
وبهذه اللطائف الرقيقة من النقدات الانطباعية تتكئ ثقافة علي خضران النقدية على تتلمذه وتمدرسه في مدرسة النقد الانطباعي الذي تمثله رواد المدرسة النقدية العربية التراثية. والذي اعتقده أن علي خضران القرني شاعر مطبوع بدأ حياته الأدبية كشاعر ولكنه توقف عن الممارسة الشعرية واعتنى بقلمه النثري ومقالاته الاجتماعية والصحفية، وقراءاته النقدية التعريفية والاحتفائية وتوارى الشعر خلف هذه الممارسات.
ومن بواكير شاعريته تلك القصائد التي نشرها في سيرته الذاتية التي ذكرت في كتابه (من أدباء الطائف المعاصرين) ص ص 253 - 455 وفيها نجد توجهاته الشعرية نحو القضايا الإسلامية والعربية ممثلة في قصيدته (إلى القدس)، نموذج من غزلياته العفيفة في قصيدتيه (ظبي الجبل) و(اذكريني) ومن وجدانياته قصائد (كيف أنساك أبها) (يا فتاتي) (الطيف الزائر). وفي كل هذه القصائد تبدو الروح الشعرية والألفاظ والعبارات الجزلة، وسبك المعاني والمشاعر في صور وقوافي إبداعية توحي بتتلمذه على القصيدة العمودية / البيتية، وتمثل القوافي الخليلية عبر البحور الشعرية المعروفة!
ولو أنه واصل هذا النفس الشعري لوجدنا شاعراً جزلاً، ومبدعاً – حقاً ولكن الميدان الشعري فقده، وكسبه الميدان النثري ناقداً وكاتباً للرأي والقضايا العامة، وصحفياً تفتخر به الصفحات الثقافية التي يكتب فيها والمواقع الإلكترونية التي تحتفي بقلمه وتسعى إليه منذ ربع قرن أو يزيد!
حفظ الله أديبنا على خضران القرني ومتعه بالصحة والعافية لمواصلة السعي والوجود في المشهد الثقافي السعودي بقلمه المعطاء وروحه السمحة وتجلياته الوطنية!
** **
- د. يوسف حسن العارف